عاد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، من قمّته مع نظيرَيه، الإيراني إبراهيم رئيسي، والروسي فلاديمير بوتين، في طهران، على وعد بأن يجري العمل على تسكيت مخاوف بلاده في شماليّ سوريا، مقابل أن لا تُصعّد اعتداءاتها هناك في هذه المرحلة. إلّا أن أحداً لم يتوقّع أن تأتي الضربة في العراق، بارتكاب مجزرة مروّعة في محافظة دهوك، استثارت الرأي العام العراقي بوجه أنقرة، واستدعت مطالبات بردّ فوري وقوي عليها، خالطة بذلك أوراق إردوغان الذي يبدو آخر ما يحتاج إليه حالياً أزمة جديدة تنغّص عليه جهوده للفوز بالرئاسيات
أعادت المجزرة التركية في مصيف سياحي قرب زاخو في محافظة دهوك شمالي العراق، يرتاده العراقيون الهاربون من حرّ بغداد والجنوب والوسط، فتْح ملفّ العدوان التركي المستمرّ على شمال العراق، على مصراعَيه، بعد أن كانت أنقرة قد نجحت في تشتيت الانتباه عنه خلال السنوات القليلة الماضية، مستفيدة من تعقيد الوضع في البلد بسبب الاحتلال الأميركي، وسعْي واشنطن لاستخدامه منصّة ضدّ إيران. وقد نجحت أنقرة في استمالة تيّار سياسي واسع من «سُنّة» العراق، تَمثّل أوّلاً في «تحالف عزم» بقيادة خميس الخنجر، ثمّ في «تحالف السيادة» المندمج بين «عزم» و«حزب تقدّم» بقيادة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وهو الاندماج الذي صار ممكناً بفضْل تقارب بين إردوغان والرئيس الإماراتي، محمد بن زايد. كما أمكن للرئيس التركي، خلال تلك الفترة، تعزيز علاقاته التجارية، في مجال النفط تحديداً، مع «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بقيادة مسعود بارزاني، الذي ساهم غضّ نظره عن التدخّل التركي في شمال العراق، في تمادي أنقرة في عدوانها.
المجزرة التركية قلبت تلك المعادلة، ووحّدت العراقيين على التصعيد ضدّ أنقرة، مُعيدةً إلى أذهانهم دفعة واحدة كلّ الأدوار التي لعبتها تركيا في العراق، بما في ذلك السماح بتدفّق مقاتلي «داعش» الأجانب أثناء فترة «الخلافة» المزعومة، إلى سوريا والعراق عبر الأراضي التركية، بتواطؤ إردوغان ومخابراته. وبذلك، يزجّ الرئيس التركي ببلاده في مشكلة جديدة مع بلد جار، بعد أن سعى بكلّ جُهده حتى ينال رضى مَن أغضبهم في الخليج، ويتدارك نتيجة العواقب الاقتصادية لسياساته، ولا سيما مقاطعة المنتَجات التركية، والسياحة إلى تركيا، لتعود الأخيرة عرضة مجدّداً لمطالبات سياسية بإغلاق العراق الحدود معها والمطارات في وجه طائراتها ومقاطعة منتجاتها. كذلك، بدأ الحديث يتواتر عن إمكان لجوء فصائل المقاومة العراقية إلى ضرب التجمّعات العسكرية التركية في شمال العراق، إذا أخفقت حكومة مصطفى الكاظمي في معالجة ملفّ العدوان التركي المستمرّ عليه.
ويقول القيادي في «الحشد الشعبي»، عبد الرحمن الجزائري، لـ«الأخبار»، إن «ثمّة إجراءات قانونية يجب اتّخاذها منها الذهاب إلى الأمم المتحدة»، مشيراً في المقابل إلى «تسريبات عن المقاومة الإسلامية مفادها أنها سوف تردّ على المقرّات التركية، وأنها تمتلك صواريخ للردّ، بعد إمهال الحكومة 72 ساعة لاتّخاذ إجراءات مناسبة خلال اجتماعها الذي تمّ الاتفاق عليه. فالصبر على تساهُل الحكومة ينْفد والمؤامرة واضحة جداً». ولم ترقَ ردود فعل السلطات والقوى السياسية العراقية، على رغم إجماعها على ضرورة اتّخاذ إجراءات ضدّ أنقرة، إلى مستوى الغضب الشعبي الذي تَجسّد خصوصاً في إنزال العلم التركي عن السفارة في بغداد وإحراقه، وظلّت أسيرة الحسابات السياسية لكلّ من القوى التي انطبعت إداناتها بلون مواقفها في العملية السياسة الداخلية، ولا سيما المساعي المتعثّرة لتشكيل حكومة جديدة، وفق ما عكست تصريحات أدلى بها إلى «الأخبار» قياديون في قوى سياسية مختلفة.
المجزرة التركية وحّدت العراقيين على التصعيد ضدّ أنقرة
وعلى رغم أن الضحايا الذين كانت غالبيتهم من الأطفال والنساء، ليسوا من الأكراد، غير أن الاعتداء أعاد أيضاً فتح ملفّ إقليم كردستان العراق، الذي يمثّل دور «البيشمركة» الكردية فيه انتقاصاً من سيادة العراق على أراضيه، ومنعاً لقوات الأمن العراقية من التحرّك بحرية لبسط سلطتها على مختلف الأراضي العراقية، ما يخلق فراغاً أمنياً تستغلّه أنقرة للنفاذ إلى الداخل العراقي، بذريعة مكافحة «حزب العمال الكردستاني». وظهر الالتباس واضحاً في موقف «الحزب الديموقراطي الكردستاني» الذي أحال القيادي فيه، وفاء محمد كريم، الأمر، وعلى غير عادة الحزب، إلى حكومة بغداد. وقال كريم، في تصريح إلى «الأخبار»، إن «الموقف الرسمي اتُّخذ من حكومة إقليم كردستان ببيان إدانة شديدة، وأيضاً طالبت الكتلة الديموقراطية البرلمانية باستدعاء الكاظمي للبرلمان بسبب سكوته الدائم أمام هذه الاعتداءات»، مضيفاً أنه «بالنسبة إلى المقاطعة مع الجارة تركيا، فهذا الإجراء يُتّخذ من حكومة بغداد كونها تمثّل سيادة البلاد، ونحن أيضاً ملتزمون بقرارات الدولة السيادية حول الانتهاكات الخطيرة ضدّ أراضي إقليم كردستان».
من جهته، اعتبر القيادي في «الاتحاد الوطني الكردستاني»، برهان شيخ رؤوف، القصف التركي «دليلاً على أن تركيا لديها أطماع توسّعية في العراق ودول الجوار، وتصرّفاً غير مسؤول ينمّ عن عدم احترام لحسن الجوار على رغم وجود علاقات تجارية قوية وتبادل تجاري يتجاوز عشرات مليارات الدولارات سنوياً». أمّا الأمين العام لحركة «واثقون»، علي الشريفي، فطالب، في حديث إلى «الأخبار»، الحكومة بردّ اقتصادي على الاعتداء التركي «من خلال منْع استيراد البضائع التركية لإلحاق الضرر بالاقتصاد التركي، في ظلّ الظروف المتردّية التي يمرّ بها هذا الاقتصاد المهترئ بسبب السياسات الرعناء للقيادة التركية الحالمة بإعادة الأمجاد العثمانية عبثاً». كما دعا إلى استمرار التظاهر والاحتجاج أمام السفارة والقنصليات التركية وغلقها تماماً، واتّخاذ إجراءات أخرى من قِبَل الشركات مِن مِثل منع السفر ومنع بيع التذاكر إلى تركيا.