الموصل.. المعاناة مستمرة بعد مرور سنة على سقوط المدينة بأيدي "داعش" الإرهابي، ولا أمل في النجاة يلوح بالأفق رغم الضربات اليومية التي يقول التحالف الدولي إنه يوجهها لمواقع التنظيم.
العام كان مليئا بالأحداث المأساوية، إذ أظهر التنظيم خلاله أبشع أدواته لترويع السكان المحليين والعالم برمته وتعزيز سمعته الدموية، فارتكب جرائم بحق المدنيين، وانخرط في خطف النساء والاتجار بالبشر، وعمليات الإعدام الجماعي، وتدمير الآثار التاريخية .. بهذه الأفعال التي يتم تصوير العديد منها بعناية ونشرها على الانترنت، يجهد التنظيم لبناء "دولته الإسلامية"، بأيد محلية وأجنبية، مرغما عشرات آلاف السكان المحليين على الفرار.
طريق "داعش" إلى "الخلافة" يعود تاريخ تنظيم "الدولة" إلى عام 1999، عندما أسس الأردني أبو مصعب الزرقاوي تنظيما أطلق عليه "جماعة التوحيد والجهاد". في عام 2004 أعلن الزرقاوي مبايعة "القاعدة" وعن تغيير اسم جماعته إلى "تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، وتبنت الجماعة مسؤولية معظم الهجمات الإرهابية التي ارتكبت في العراق خلال الأشهر اللاحقة، كما كان لها دور دموي مركزي في أحداث الأنبار عام 2013. وبعد اندلاع الحرب السورية، انخرط التنظيم في العمليات القتالية بنشاط، وبقسوة فائقة.
في أبريل/نيسان عام 2013 أعلن التنظيم عن تغيير اسمه إلى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وذلك بعد فرض سيطرته على محافظة الرقة السورية بالكامل.
بدأ هجوم "داعش" على الموصل في 6 يونيو/حزيران عام 2014. وفي 10 يونيو/حزيران سقطت المدينة بالكامل بيد التنظيم بعد فرار عناصر الجيش العراقي منها. وفوجئ العالم وعلت الدعوات إلى إطلاق حملة دولية لمحاربة التنظيم، وردت الولايات المتحدة بإرسال مزيد من المدربين إلى العراق ودعت إلى تأسيس تحالف دولي لمحاربة التنظيم.
أسباب سقوط الموصل يقول المحللون إن سقوط الموصل كان نتيجة خطة دقيقة وضعها التنظيم واستراتيجيته الشاملة في العراق وسوريا، حيث سعى قبل كل شيء، إلى الاستيلاء على منشآت إنتاج النفط والسدود ومنشآت توزيع المياه.
وجاء الهجوم على الموصل بعد أشهر من معارك شرسة بين القوات العراقية والتنظيم في الأنبار وصلاح الدين، إذ باتت القوة في الموصل مقطوعة عن التعزيزات. وعلى الرغم من الإنجازات الميدانية التي حققتها القوات العراقية خلال الأشهر الماضية، وكان أبرزها استعادة السيطرة على تكريت في مارس/آذار الماضي، إلا أنه من المستبعد أن تشن بغداد قريبا عملية لاسترجاع الموصل، وحتى في حال نجاح مثل هذه العملية وتحرير المدينة، ستبقى الموصل مهددة دائما نظرا لسيطرة التنظيم الإرهابي على صحراء الجزيرة والمناطق السورية المجاورة.
إعلان "الخلافة" وتشكيل التحالف الدولي بعد سقوط الموصل، بدأ "داعش" التوسع مثل ورم سرطاني، فبسط سيطرته خلال فترة وجيزة على محافظة نينوى بالكامل، ووسع رقعة سيطرته في الأنبار وصلاح الدين، وهاجم مناطق شمال العراق، وهو ما اضطر الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى الإعلان عن اتخاذ إجراءات مكثفة لمحاربة التنظيم. في نهاية حزيران/يونيو أعلن "داعش" عن قيام "دولة الخلافة"، مؤكدا أن طموحاته تتجاوز سوريا والعراق. وبعد مرور أيام ظهر زعيمه أبو بكر البغدادي في جامع الموصل لأول مرة مطلع يوليو/تموز. ولم تقدم الولايات المتحدة على أي خطوات ملموسة وحاسمة ضد "داعش" إلى حين شن التنظيم هجمات على سنجار وتلعفر وزمار في شمال العراق، إذ دفعت أزمة النازحين الإيزيديين العالقين في جبل سنجار واشنطن إلى إطلاق حملة إغاثة، وإلى الشروع في توجيه ضربات جوية إلى مواقع التنظيم بدءا من 8 أغسطس/آب الماضي. نتائج غارات التحالف
يواصل التحالف الدولي الذي شكلته واشنطن غاراته على أراضي العراق وسوريا. وتحدث المسؤولون الأمريكيون وفي طليعتهم الرئيس باراك أوباما عن إحراز نجاحات كبيرة تمثلت في استعادة سد الموصل وصد الهجوم على الإيزيديين وعلى كوباني (عين العرب السورية) واسترجاع تكريت. وتقول واشنطن ان "داعش" فقد نحو ربع المناطق المأهولة التي كان يسيطر عليها في العراق قبل عام.
وبعد كل هذه النجاحات جاء سقوط الرمادي منتصف مايو/أيار الماضي مفاجأة بالنسبة لواشنطن، على الرغم من أن المعارك في مشارف المدينة استمرت لأكثر من شهر. ووصفت الإدارة الأمريكية سقوط الرمادي بـ"انتكاسة"، مصرة على أنه لن يؤثر على سير العملية ضد الإرهاب.
أما أسباب هذه "الانتكاسة" فهي عديدة، وفي مقدمتها النقص في التنسيق، إذ تقول بغداد أن التحالف الدولي لم يوجه إلا غارات جوية قليلة على مواقع المسلحين في محيط الرمادي قبل سقوطها. ويبدو أيضا أن الإرهابيين تأقلموا مع الظروف الجديدة بسرعة واستطاعوا تقليل خسائرهم جراء الغارات الجوية.
أما وزير لدفاع الأمريكي آشتون كارتر فقال إن الجيش العراقي لم "يبد ارادة بالقتال" في الرمادي، وقال: "لدينا مشكلة مع ارادة العراقيين في قتال التنظيم وفي الدفاع عن أنفسهم"، مضيفا أن عدد الجنود العراقيين كان أكبر من مهاجميهم بكثير، ومع ذلك فقد فشلوا في القتال، وانسحبوا من مواقعهم.
استراتيجية "داعش": البقاء والتوسع وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي صدرت مجلة "دابق" الالكترونية التابعة لـ"داعش" تحت عنوان "البقاء والتوسع"، إذ أعلن فيها التنظيم عن استراتيجيته وغايته المتمثلة في رفع رايته السوداء فوق مكة والمدينة وروما وعواصم شرقية وغربية أخرى. وفي إطار هذه الاستراتيجية التي تعتمد على مبدأ "الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع"، حاول التنظيم في الخريف الماضي مهاجمة بغداد فأرسل الآلاف من مقاتليه الذين تمكنوا من التسلل إلى مناطق قريبة من مطار بغداد.
وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2014 سقطت مدينة درنة الليبية بيد مسلحين أعلنوا ولاءهم للبغدادي، لتصبح أول مدينة خارج أراضي العراق وسوريا تنضم إلى "دولة الخلافة". وفي يناير/كانون الثاني عام 2015، أكدت الاستخبارات الأفغانية ظهور تواجد عسكري للتنظيم في أراضي أفغانستان. تعزيزات لـ"داعش" يبدو أن "داعش" أصبح على غرار حية "العدار" الأسطورية، إذ كلما قُطعت رؤوسها، تنمو في مكانها رؤوس جديدة. ولا ينقطع تدفق المتطرفين الأجانب الوافدين إلى العراق وسوريا.
في يوليو/تموز عام 2014، ذكر نشطاء سوريون أن "داعش" جند أكثر من 6300 مقاتل، إذ كان كثيرون منهم عناصر سابقة في "الجيش الحر".
لكن تقريرا أمميا قدم لمجلس الأمن الدولي أواخر مايو/أيار الماضي، قدر عدد المقاتلين في صفوف "داعش" بين 25 و30 ألفا، معظمهم أجانب. وذكر التقرير أن عدد مسلحي التنظيم ازداد خلال الأشهر القليلة الماضية بمقدار 70%، إذ جاء المتطرفون الجدد من أكثر من 100 دولة بالعالم.
وحسب تقييمات المركز الدولي لدراسة التطرف في لندن، تبقى تونس في طليعة الدول المصدرة للإرهابيين، إذ يبلغ عدد التونسيين في صفوف التنظيم قرابة 3 آلاف.
وفي المكان الثاني وضع المركز السعودية، إذ قدر "مساهمتها" بـ2500 مقاتل متطرف في صفوف "داعش". ومن الدول العربية، ذكرت دراسة المركز أيضا الأردن (نحو 1500 متطرف) ولبنان (900) وليبيا (600) ومصر(360) والأراضي الفلسطينية واسرائيل (120) واليمن (110) والسودان (100).
أما قرابة خمس المقاتلين الأجانب في صفوف التنظيم، فجأوا من دول أوروبا الغربية، إذ بات لفرنسا تمثيل في صفوف "داعش" بقرابة 1200 متطرف، تليها ألمانيا وبريطانيا، التي كانت كل منهما مصدرا لما بين 500 و600 من عناصر "داعش". أما روسيا فقدر المركز مساهمتها بما بين 800 و1500 متطرف.
حملة الترويع الإعلامي بالتزامن مع بدء هجماته المكثفة، أطلق "داعش" حملة ترويع واسعة النطاق، وهو ينفذ في الأراضي الخاضعة لسيطرته عمليات إعدام جماعية مرعبة، وينخرط في الابتزاز والنهب والاتجار بالبشر.
كما يستخدم الإرهابيون وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية المؤيدة له ومجلته "دابق" لإيصال صور لجرائمه إلى العالم.
وبدأ "داعش" حلقة دموية جديدة في يونيو/حزيران الماضي بإعدام مئات الجنود العراقيين الذين أسرهم في الموصل وتكريت والمدن الأخرى التي سقطت بيد التنظيم. وبعد استيلائه على تكريت، نشر الإرهابيون شريطا مسجلا يظهر المئات من الجنود وهم يقتادون من معسكر سبايكر في تكريت، تمهيدا لإعدامهم.
وبعد بدء الغارات الأمريكية على مواقع التنظيم، رد "داعش" بقطع رؤوس رهائن غربيين كانوا في قبضته. وجرى تصوير كل جريمة من هذه الجرائم بعناية فائقة، ووفق سيناريو نفسه، إذ كان الضحايا يرتدون ملابس برتقالية على غرار زي سجناء غوانتانامو.
في 19 أغسطس/آب، لقي الصحفي الأمريكي جيمس فولي حتفه ذبحا على أيدي الإرهابي "جون الجهادي" أشهر جلادي "داعش". وفي 28 أغسطس/آب، قتل الرقيب اللبناني علي السيد ذبحا، لتبدأ بذلك سلسلة الإعدامات البشعة التي بلغت ذروتها بإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة في 3 فبراير/شباط.
ومن بين الضحايا أيضا: الصحفي الأمريكي-الاسرائيلي ستيفن سوتلوف (2 سبتمبر/أيلول)، وعامل الإغاثة البريطاني ديفيد هينز (13 سبتمبر/أيلول)، ورجال ونساء من الأكراد تم إعدامهم ذبحا قرب كوباني في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، وعامل الإغاثة البريطاني آلن هينينغ (3 أكتوبر/تشرين الثاني)، والصحفي العراقي رعد العزاوي (11 أكتوبر/تشرين الثاني)، وعامل الإغاثة الأمريكي بيتر كاسيغ (16 نوفمبر/تشرين الثاني)، والرهينتان اليابانيان هارونا يوكاوا، وكينجي غوتو (يناير/كانون الثاني).
وفي 15 فبراير/شباط نشر التنظيم شرطي فيديو يظهر عملية ذبح 21 عاملا قبطيا اختطفوا في ليبيا. وفي 19 أبريل/نيسان، وزع التنظيم شريطا آخر، يصور عملية إعدام 28 مسيحيا اثيوبيا.
تدمير "داعش" للآثار أصبح تدمير المواقع التاريخية والدينية سلاحا بيد "داعش" لاجتثاث الثقافة والترويع وطرد ما تبقى من الأقليات الدينية من المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا. وخلال فترة سيطرته على الموصل، دمر التنظيم ونهب جميع الكنائس تقريبا في المدينة. وفي يوليو/تموز عام 2014 دمر الإرهابيون جامع النبي يونس المشيد على تلة آشورية ويعود تاريخه إلى عام 1365، ومرقدي جرجيس والنبي شيث، ليبدأ بعد ذلك "داعش" حملته المنهجية لتدمير الأضرحة والكنائس والأديرة. وفي مارس/آذار نشر التنظيم شريطا مصورا لعناصره وهم يدمّرون مدينة نمرود الآشورية الأثرية في شمال العراق، التي تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، قبل أن يعمد إلى تفخيخها وتفجيرها بالكامل.
وفي الشهر نفسه أعلنت وزارة السياحة والآثار العراقية أن التنظيم دمر أطلال مدينة الحضر الأثرية في الموصل.
وأدانت الأمم المتحدة هذه الهجمات، وقال أمينها العام بان كي مون إن استهداف "الإرث الثقافي المشترك" للعالم يمثل جريمة حرب.
واعتبرت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) إيرينا بوكوفا أن "تدمير الحضر يمثل نقطة تحول في الاستراتيجية المروعة الحالية للتطهير الثقافي في العراق".
ونهب عناصر التنظيم متحف الموصل، وذلك بعد نهبهم متاحف ومواقع تاريخية أخرى، إذ جعل التنظيم من الاتجار بالقطع الأثرية مصدرا للربح، بالإضافة إلى تهريب النفط وبيعه والإتجار بالبشر وأنشطة إجرامية أخرى ينخرطوا فيها للحصول على مزيد من الأموال.
ومن الواضح أنه من المستحيل القضاء على "داعش" دون قطع مصادر تمويله. وعلى الرغم من صدور قرارات دولية عدة بهذا الشأن، يقف العالم مكتوف اليدين ويكتفي بتوجيه دعوات إلى الإرهابيين لكي لا يدمروا آثار تدمر التي سقطت تحت سيطرتهم أيضا. وتعود هذه الدعوات إلى الأذهان الدعوات التي سبق أن وجهها مجلس الأمن في قراراته إلى الجماعات المتطرفة في سوريا إلى احترام حقوق الإنسان. لكن "داعش" لا يعرف ما هي حقوق الإنسان.. ولماذا يهتم بالتاريخ والثقافة، إذ كان هدفه يكمن في إعادة المنطقة إلى القرون الوسطى. المصدر: RT