تعود مدينة الموصل لتتصدر مشهد الأحداث المتسارعة بين الأراضي العراقية والسورية. شريط مسجّل لتنظيم «داعش» أظهر استباحة متحف المدينة بما فيه، وأعاد التذكير بأنّ ما اختزنته هذه الأرض عبر العصور هو أيضاً بحكم المقدّس؛ حقيقة، لعلّ التنظيم ـ ومن خلفه إن وُجدوا ـ مدّها، من حيث لا يدري، ببعض من الحياة
عودة جديدة إلى حاضر بلاد الرافدين المنسي في خضم تفاصيل معارك المستبيحين، بخلاف هوياتهم. عودة إلى ماض كاد أن يطوي أهله صفحته، لولا أن استعادَته أكثر الصراعات واقعية التي تشهدها «دول المنطقة» منذ عقود والتي أججها طرف يجمع في واقعه بين الحقائق الفاضحة وبين ما يؤديه من دور وظيفي حيث مر. الحدث كان في مدينة الموصل، عاصمة «دولة الخلافة» التي سقطت بداية الصيف الماضي، ويبدو أنها تتهيّأ، راهناً، لمعارك «تحرير» مبهمة.
عناصر الحدث تمثلت بنشر تنظيم «داعش» تسجيلاً مصوّراً أظهر استباحة متحف المدينة وما يحتويه من كنوز (أصلية أو نسخ)، ليراكم بذلك أفعال إرادة محو التراث الثقافي، والتي بدأت بتدنيس «المقدّس»، إضافة إلى حرق المكتبات بما فيها، وليس انتهاءً، ربما، بتدمير الحجر. أما جوهر الحدث، فهو دعوة صارخة للعودة إلى قراءة حقائق هذه الأرض التي انشغل قاطنوها لعقود بالحروب المصطنعة، أو ملتحقين، حديثاً، بمشاريع وعقائد الوهم. وهكذا، أظهر تسجيل مصور نشر على الإنترنت ويحمل اسم تنظيم «الدولة الإسلامية» قيام مقاتليه بتحطيم مجموعة من التماثيل والمنحوتات النفيسة التي تعود إلى الحقبة الآشورية والموجودة في متحف الموصل، إضافة إلى معالم أثرية أخرى.ووفقاً لكلية الآثار في «جامعة الموصل»، تأسس «متحف الموصل الحضاري» عام 1952، ويشتمل على ما بقي من آثار المنطقة الشمالية المستخرجة في تنقيبات البعثات الآثارية، بالإضافة الى تزويده بعناصر من عصور مختلفة. وتتركز الآثار في المتحف على مقتنيات من عصور ما قبل التاريخ لمنطقة نينوى وآثار العصور الآشورية وآثار مدينة الحضر وآثار الحضارة الإسلامية. وجدد المتحف عام 1972، ويضم ثلاث قاعات أرضية رئيسية، هي: القاعة الآشورية والحضرية والإسلامية، بالإضافة الى قاعة كبيرة في الطبقة الثانية مخصصة لعرض الآثار ذات العصور المتنوعة. ويتميز المتحف بكونه ثاني أقدم متحف في العراق، بعد متحف بغداد. وظهر في التسجيل المصور، أمس، الصادر عن «المكتب الإعلامي لولاية نينوى» في تنظيم «داعش» الآثار التي يعود بعضها إلى الحضارة الآشورية التي سادت خلال القرن السابع قبل الميلاد، ورجال يحطمون التماثيل بالمطارق أو باستخدام المثقاب الكهربائي، معتبرين أنها رموز للوثنية. وقال أحدهم «أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بإزالة التماثيل وطمسها وفعل ذلك الصحابة من بعده لما فتحوا البلدان، وإن هذه التماثيل وهذه الأصنام عندما أمر الله بطمسها وإزالتها هانت علينا ولا نبالي إن كانت بمليارات الدولارات». وظهر في التسجيل رجال يطيحون التماثيل عن قواعدها لتتحطم على الأرض، وأخرى يحطمها المقاتلون المتشددون بالمطارق لتفتيتها كما يظهر أحدهم وهو يستخدم مثقاباً كهربائياً لتفتيت ثور مجنح. كما يظهر الفيديو غرفة كبيرة تتكدس فيها التماثيل المقطعة على وقع أناشيد إسلامية. وقال الرجل الذي ظهر في الفيديو في معرض تبرير تدمير التماثيل «أيها المسلمون، إن هذ الآثار التي تظهر ورائي إنما هي أصنام وأوثان لأقوام من قرون سابقة كانت تُعبد من دون الله عز وجل». وأضاف إن «ما يسمى الآشوريين والأكاديين وغيرهم كانوا يتخذون آلهة للمطر وآلهة للزرع وآلهة للحرب ويشركون بالله عز وجل ويتقربون إليها بشتى أنواع القرابين». وفي محاولة للتأثير عاطفياً، بدأ التسجيل بتلاوة قرآنية لآية تقول «إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون. قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين. قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين». عالمة الآثار العراقية والباحثة في معهد الآثار في لندن، لمياء الغيلاني، قالت إن عناصر التنظيم تسببوا بضرر لا يمكن حصره، وأضافت إنّ «هذه (الآثار) لا تمثل فقط تراث العراق، بل تراث العالم بأسره. إنه تراث عالمي». وتابعت بالقول: «إنها لا تقدر بثمن وفريدة. لا أريد أن أكون عراقية بعد اليوم». وشبهت، في حديثها إلى «رويترز»، الضرر الذي ألحقه التنظيم بذلك الذي تسببت به «حركة طالبان» عندما فجرت تمثالي بوذا العملاقين عام 2001 في باميان بأفغانستان. وأشارت الغيلاني إلى أن عناصر «دعش» دمروا ثورين مجنحين من مدينتي نينوى ونمرود التاريخيتين، فضلاً عن تماثيل من مملكة الحضر (أو عربايا) في شمال العراق التي يعود تاريخها إلى ما قبل ألفي عام. وكانت مصادر محلية في محافظة نينوى قد أشارت أمس إلى أن مسلحي «داعش» قاموا، أيضاً، بهدم أجزاء كبيرة من «بوابة نركال» التاريخية شرقي الموصل، وآثار وصروح تاريخية في ناحية النمرود جنوبي المدينة. ويأتي التعرض لمتحف الموصل وللمعالم الأثرية ليضاف إلى فعل إحراق التنظيم آلافاً من الكتب والمخطوطات في المدينة ذاتها، وهو الأمر المستمر منذ السيطرة على المدينة في شهر حزيران الماضي، والذي يبدو أنه أدى أمس، إذا صحت التقارير، إلى إحراق كتب في سوق شارع النجيفي وسط الموصل، وذلك على اعتبار أن تداولها حرام وعلى أهالي المدينة عدم قراءة هذا النوع من الكتب.وكان مدير المكتبة العامة في المدينة، غانم الطعان، قد أعلن يوم السبت الماضي قيام التنظيم بحرق المكتبة الواقعة في منطقة الفيصلية شرقي المدينة. وبحسب التقارير عن المكتبة، فهي تأسست عام 1921 وعرفت آنذاك بالمكتبة العمومية. وبغياب تقارير تفي بأرقام وإحصائيات دقيقة حول الخسائر (قد تصل في مجملها إلى نحو مئة ألف بين مجلدات ومخطوطات ووثائق)، كانت منظمة «اليونيسكو» قد أعلنت في بداية الشهر الجاري أنه «وفقاً لمصادر موثوق بها، فإن آلافاً من الكتب في الفلسفة والقانون والشعر والعلوم قد أحرقت عمداً في الأسابيع الماضية. وإذا تأكدت هذه التقارير، فإن هذا الأمر يكون واحداً من أكبر أعمال التدمير المتعمدة للكتب في تاريخ البشرية». كذلك، أكدت التقارير أمس أنّ «داعش» استكمل هجماته على مراكز العبادة في المدينة ومحيطها، إذ أقدم على تفجير «مسجد الخضر» التاريخي جنوب الموصل.