مع شح المساعدات ونفاد المخزون الغذائي وتهاوي الإنتاج الزراعي واحتدام الأزمات الغذائية في ظل حصار مطبق يقترب من شهره الرابع تزامنًا مع حرب إسرائيلية هي الأكثر دموية، بات سكان قطاع غزة يعتمدون على المعلبات التي تعد الوسيلة الرئيسية لإبقائهم على قيد الحياة.
وتعتبر اللحوم الحمراء المتمثلة في لحوم العجول والخراف سلعة نادرة هذه الأيام في القطاع المحاصر إسرائيليًا، نظرًا لحالة الحرب، عدا عن عدم توفر الدواجن بفعل القصف الإسرائيلي واستهداف مساحات واسعة من المزارع والأراضي في غزة.
أغذية غير صحية
علاوة على ذلك فإن الحصار الإسرائيلي يدفع السكان نحو أغذية غير صحية تتمثل في المعلبات أو حتى تناول "أعلاف الحيوانات" كما حصل في مناطق شمالي القطاع جراء عدم توفر الطحين اللازم لصناعة الخبز والأطعمة بفعل الحصار الإسرائيلي. وبالتوازي مع هذا كله فإن الأسواق تخلو بدرجة أساسية من الخضروات الأساسية عدا عن ارتفاع أسعار الكثير منها لتتجاوز 5 إلى 7 أضعاف ما كانت عليه، وهو أمر يعزز من لجوء الأسر الفلسطينية للاعتماد على الأطعمة غير المفيدة.
وفي بعض الأحيان باتت العائلات تلجأ لتناول الأغذية المكشوفة المنتشرة في الأسواق أو تناول "الإندومي" الذي يغرق الكثير من أسواق الجنوب وتحديدًا في مدينة رفح، تزامنًا مع صعود كبير في أسعار السلع الأساسية وعدم وجود مصادر دخل لغالبية النازحين.
وإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الأسر الفلسطينية قلصت عدد وجباتها من الطعام إلى وجبتين أو وجبة يوميًا في ظل عدم توفر أطعمة قادرة على سد رمق أبنائها منها وهو أمر انعكس بالسلب صحياً على مئات الآلاف من النازحين في غزة.
تجربة مريرة
أحد النازحين من خانيونس إلى رفح، الفلسطيني أنور الشيخ علي، تحدث لـ "العربي الجديد" عن اعتماده وأفراد عائلته على المعلبات منذ فترة لا تقل عن شهرين حيث تبدلت حياته منذ بداية العملية العسكرية البرية في الجنوب وباتت هذه الأطعمة هي السبيل الوحيد للتعامل مع الجوع.
ووفقاً لحديث النازح الشيخ علي، فإن وجبات الطعام باتت مكررة وهي إما معلبات اللحوم أو معلبات "التونة" -السمك- إلى جانب بعض المعلبات الأخرى كالفول والحمص، في حين يفتقد الأطفال وصغار السن إلى الأطعمة الصحية التي كانوا يتناولونها في السابق. ويشير إلى أن أسعار السلع الغذائية الأساسية مثل الخضروات كالبندورة وصل سعر الكيلوغرام الواحد منها إلى 20 شيكلاً إسرائيلياً وبدرجة أقل قليلاً الخيار، عدا عن عدم توفر اللحوم الحمراء وشحها من السوق وتجاوز الكيلوغرام الواحد منها مبلغ 90 شيكلا في بعض الأحيان (الدولار=3.69 شواكل).
وحسب دراسات طبية، فإن احتواء المعلبات على نسبة عالية من الملح، يزيد من خطر ارتفاع ضغط الدم والإصابة بالسكتة الدماغية أو النوبة القلبية، وفي حالة انتهاء الصلاحية أو التخزين غير الصحي فإن المعلبات تؤدي إلى إصابة الشخص بالتسمم الغذائي. وحذرت التقارير الطبية من احتواء المعلبات على المواد الحافظة، وتأثيراتها السلبية على صحة الإنسان.
وشهدت الآونة الأخيرة انتشاراً متسارعاً في أمراض التهاب الكبد الوبائي والتهاب السحايا وفقر الدم، وبعض الأمراض الجلدية بفعل سوء التغذية ومياه الشرب وتكدس النازحين على مساحة 20% فقط من أراضي القطاع الذي يعيش تحت الحصار والحرب.
أما السيدة الفلسطينية أنعام القدرة، فتعتمد هي الأخرى منذ بداية الحرب على إطعام عائلتها على المساعدات الغذائية التي تتسلمها من الجهات الإغاثية في غزة والتي تعتبر هي السبيل الأساسي لتوفير الطعام في ظل شح توفره من الأسواق ونقصه.
وتقول القدرة لـ "العربي الجديد" إن المعلبات هي الغذاء الرئيسي لها ولعائلتها ولعشرات الأسر الفلسطينية في ظل عدم توفر السلع الأساسية حيث ارتفعت أسعارها ولا يوجد مصدر دخل لها ولعائلتها بفعل الحرب الإسرائيلية المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وترى السيدة الفلسطينية أن لهذه المعلبات تأثيرات سيئة على الكثير من الأطفال نظرًا لعدم وجود استفادة صحية منها. وبحسب الأمم المتحدة فإنه وحتى 20 كانون الثاني/ يناير الجاري، نزح ما يصل إلى 1.7 مليون شخص (أو أكثر من 75 بالمئة من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة، بعضهم عدة مرات، حيث يتم إجبار العائلات على الانتقال بشكل متكرر بحثا عن الأمان.
تدمير الزراعة
ولم تسلم المواسم الزراعية من التأثيرات الكارثية للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ قرابة 4 شهور مُخلفا دمارا هائلا في الأراضي الزراعية.
وأدى تجمُع الأزمات أمام القطاع الزراعي، إلى خسارة المحاصيل الزراعية بفعل القصف الإسرائيلي غير المتوقف للأراضي الزراعية على طول الشريط الشرقي، والتي تُنتج مكونات السلة الغذائية المُتكاملة لقطاع غزة، والذي كان يُحاول طيلة السنوات الماضية الاكتفاء ذاتيًا من المحاصيل الزراعية كافة، وتسويق وتصدير بعض منها إلى الضفة الغربية ودول الخارِج.
ومن ضمن المُعضلات الأساسية التي باتت تواجِه القطاع الزراعي، والمُزارعين، انقطاع الماء اللازم لمحاصيلهم الزراعية، كذلك انقطاع التيار الكهربائي اللازم لتشغيل مضخات المياه، علاوة على منع دخول الوقود اللازم لتشغيل مُختلف المعدات الزراعية ومُحركات قوارب الصيادين، وقبل كل ذلك عدم تمكن المُزارعين بالأساس من الوصول إلى أراضيهم الزراعية، بفعل الاستهداف الإسرائيلي لكُل مُتحرك فيها، وقتله على الفور، إلى جانب إغلاق البحر في وجه الصيادين.
واقع مزر
بدوره، يحذر رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده من مخاطر تصاعد ضحايا نهج التجويع الإسرائيلي لسكان قطاع غزة، لا سيما في صفوف الأطفال والمسنين، وذلك في إطار جريمة الإبادة الجماعية المتواصلة ضدهم منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ويؤكد عبده لـ "العربي الجديد" تنامي خطر المجاعة في صفوف 2.3 مليون نسمة في غزة بالتزامن مع تدهور شديد الخطورة في الصحة والتغذية والأمن الغذائي وتزايد حالة الوفيات بفعل تفشي الأمراض المعدية والنقص الشديد في خدمات الصحة والمياه والصرف الصحي والنظافة.
وحسب رئيس المرصد الأورو متوسطي فإنه تم توثيق وفاة رضيع من مواليد آب/أغسطس 2023 من بلدة بيت حانون شمالي قطاع غزة، جراء الجوع بسبب عدم توفر الغذاء اللازم له ولوالدته، جراء الحرب الإسرائيلية المتواصلة للشهر الرابع على التوالي.
ويشير إلى وفاة عدد من المسنين في مناطق متفرقة من قطاع غزة بفعل تداعيات معاناتهم من الجوع والجفاف، وهو أمر من شأنه أن يتكرر في حالات جديدة في ضوء استمرار الحرب ونقص الغذاء والاعتماد على الأغذية غير الصحية.
وحسب عبده فإن الاحتلال الإسرائيلي يصر على الرغم من قرار مجلس الأمن الدولي وتحذيرات الأمم المتحدة المتكررة على استخدام التجويع كأداة حرب في قطاع غزة والاستهداف المتعمد لعمال الإغاثة الذين لا ينبغي أن يكونوا هدفًا أبدًا.
وعلى وقع الضغوط الدولية، قيدت إسرائيل إدخال إمدادات إنسانية من مصر إلى قطاع غزة عبر معبر رفح البري، واقتصرت على معدل 100 شاحنة يوميًّا، وهي معدلات لا تقارن مع متوسط حمولة 500 شاحنة كانت تدخل لتلبية الاحتياجات الإنسانية إلى القطاع قبل السابع من أكتوبر الماضي.