للعنف فروع، ولولا ذلك لما ابتكرنا مفردات جديدة في اللغة لخلق حالة التباين في المعنى، لذلك نقول عنفاً ثورياً ونقول مقاومة، كما نقول أيضاً إجراماً وإرهاباً.
المقارنة السريعة بين موقف الغرب من قتل جنود الاحتلال ومستوطنيه، وموقفه من محاولة إبادة غزة بالكامل وقتل الأطفال بالجملة باتت مقاربة اعتيادية ومعروفة. الناشطون والمؤثرون على صفحات التواصل الاجتماعي يضعون الصور المتقابلة وينبشون الأرشيف؛ هنا سكت الغرب وهناك تحدث، هنا تراءى للغرب "جريمة" وهناك لم تصله أخبار الموت. من آثار العامل البرتقالي القاتل لأطفال فيتنام إلى اليورانيوم المنضّب في العراق ووسائل التعذيب السادية في أبو غريب إلى القنابل المحرمة دولياً والفوسفور في غزة، مسلسل الصمت الغربي طويل ومستمر.
لا جديد في مسلسل الصمت الطويل هذا، ولا جديد في الصور المتقابلة على وسائل التواصل، ولكن الجديد نسبياً هذه المرة، هو اختراع صورة متخيّلة في القتل، أراد الغرب إلباسها عنوة للمقاومة الفلسطينية في غزة، عبر أبواق الإعلام المتبجح بحرفية "التثبت من الوقائع". هي محاولة لاستثارة الإجماع العالمي عبر استرجاع صورة " داعش"، وإسقاطها على المقاومة الفلسطينية.
انشغلنا جميعاً بالرد على التهمة "كلا، لم نفعل ذلك"، ومع أننا حقاً لم نفعل ذلك، بيد أننا انشغلنا في الإجابة عن السؤال الفرعي، الذي شاغلنا به بايدن ونتنياهو "هل حقاً قتلتم بهذه الطريقة؟". لكن الآن، بعد النفي الفنّي للتهمة، وإحراج منصات الإعلام في الغرب البارد، لا بد من رد السؤال بسؤال: "من يقتل بطريقة داعش، هو الذي يخوض حرباً غير عادلة بطريقتها، فمنْ منا فعل ذلك؟ نحن أم الغرب و"إسرائيل"؟
لا جدوى من الاتكاء على موروثنا الثقافي والاجتماعي عندما نريد إقناع الغرب ببراءتنا من كل ذلك، فالغرب الأصمّ لا يسمع حجج "المصادرة على المطلوب" في عالم المنطق، كما أنه هو نفسه مستمر في انحطاطه وتخلفه في معايير حقوق الإنسان وتصنيف الحروب العادلة وغير العادلة، فتصنيفات أوغسطين وتوما الأكويني، لا شك أنها تتقدم اليوم على وثائق لاهاي وجنيف المجمدة في الأدراج.
4 معايير صيغت للحروب العادلة في الغرب، وكانت وليدة القرون الوسطى، ووليدة النار والدم، ولكن الغرب "المتحضر" اليوم يتخلف وينحدر عنها:
1. الحرب العادلة هي التي تكون في سبيل قضية عادلة.
2. أن تكون الحرب بنية صافية لتنفيذ القضية العادلة
3. أن تكون الحرب هي الملاذ الأخير (منطقياً وليس زمنياً)
4. أن يتناسب حجم الضرر الناجم عن الحرب مع المنفعة المتحققة من الانتصار فيها.
عندما أطلق تنظيم "داعش" حربه في المنطقة، كانت القضية المعلنة تأسيس دولة الخلافة الإسلامية، بطريقته هو، وبقراءته الخاصة الأصولية المطلقة للنص. وعندما أعلنت العصابات الصهيونية حربها في فلسطين، كانت قضيتها في الحرب: "هذا ما قاله لنا الكتاب المقدس، هذه الأرض ملك لنا قبل ألفي عام، والشتات اليهودي عائد إليها اليوم"..
ومع أن "داعش" يتطابق أصولياً مع "إسرائيل" في شن الحرب انطلاقاً من نص أو قراءة أصولية خالصة له، بيد أن الحركة الصهيونية امتلكت ما لم يمتلكه "داعش"، إعلان السند الدولي وعدم اختبائه، وإرسال البعثات الآثارية من مختلف أماكن العالم لتحويل الخرافة إلى حقيقة وتحويل النصوص التوراتية إلى ورقة علمية آثارية. فشلت جميع تلك البعثات إلى الحدّ الذي ارتد فيه عدد من علماء الآثار الغربيين واليهود "لا تصلح التوراة ككتاب آثاري، لن تعثروا على شيء في هذا المكان". ومع ذلك كله، استمرت "إسرائيل" في حربها، واستمر الغرب (العلمي البارد) في دعم حرب غير عادلة، قضيتها خرافة مثيرة للضحك في أوساط المثقفين الأوروبيين. كيف كان الغرب سيرد لو أنتج العرب سردية تاريخية أو تأويلاً لنص ديني تقضي بأحقيتهم في أراض أوروبية أو أميركية؟
في العمق، وبالنسبة إلى الحركة الصهيونية، لم تكن الخرافة هي أساس القضية، ولكن أساس التنفيذ لعملية الاحتلال. يشبه ذلك إلى حد كبير، أجندة "داعش" المنطلقة من سيكولوجيا التفكيك والتدمير على بناء أي شيء آخر، بما في ذلك دولة الخلافة الإسلامية نفسها. تصف الأدبيات اليهودية تعرض الأطفال اليهود في ألمانيا للعنف عام 1938م، بليلة الزجاج المكسر (KristalNacht)، وعندما عرضت الولايات المتحدة وبريطانيا فتح ممرات لنقلهم (Kinder Transposrt)، جاء رد بن غوريون واضحاً وصريحاً "فلنحرق كل الملاذات الآمنة، من الأفضل أن يموت نصف الأطفال اليهود، كي يتجه النصف المتبقي إلى فلسطين، ذلك أفضل من أن ينجو الجميع في بريطانيا أو الولايات المتحدة".
لا تشبه صورة "التضحية" بالأطفال هذه أكثر من صورة "براعم الإرهاب" في معسكرات "داعش"، التي زجّ فيها بالأطفال، على اعتبارهم جزءاً من صفوف المواجهة. لا ينبع اتهام الغرب للمقاومة الفلسطينية بقتل الأطفال من جهل بالتاريخ، وإنما من تواطؤ مطلق مع الرواية الصهيونية، التي لم تتردد في حرق أطفال اليهود، فكيف يكون ردها على أطفال الفلسطينيين؟
لقد قولب الغرب تصوراتنا بخصوص الحروب العادلة وغير العادلة، ومن ذلك نظرتنا إلى الحروب العادلة أنها تلك التي تجمع بين دولتين، وليس بين دولة وتنظيم مثلاً.
إن الغرب يريد أن يقول إن عنف "الدولة" مقبول، وعنف التنظيم مرفوض. إنه ببساطة مستعد لقبول عنف الشركات، ولكنه يريد تشويه صورة العنف الثوري للتنظيمات، التي ملأت الفراغ الذي تركته الدول في المنطقة. وليس هنالك ما يعزز هذه المقاربة أكثر من المقاربة الزمنية نفسها، أكتوبر الجيوش النظامية عام 1973م وأكتوبر التنظيمات الثورية والمقاومة التحررية 2023م.
للعنف فروع، ولولا ذلك لما ابتكرنا مفردات جديدة في اللغة لخلق حالة التباين في المعنى، لذلك نقول عنفاً ثورياً ونقول مقاومة، كما نقول أيضاً إجراماً وإرهاباً. قد يشغلنا الإعلام الغربي بوابل من الاتهامات، نقتطع وقتاً مناسباً للرد عليها ودحضها، ولكن تبقى المهمة الأساس، أن نشرح للعالم أجمع، ومن جديد، الارتباط الوثيق بين خوض الحروب غير العادلة والميل إلى التنكيل والإجرام.