«إعادة إحياء داعش»... تهويل إعلامي أم واقع ميداني؟
عودة وبعث وتعافي تنظيم «داعش» الإرهابي... مصطلحات تشغل مراكز الدراسات الغربية لتشكِّل الطبق اليومي للباحثين والصحافيين والعاملين في أروقة مراكز التفكير والاستخبارات. ورغم التفاوت في دلالة هذه المصطلحات ومعانيها، والنقاش حول إمكانية إعادة التنظيم تفعيل وجوده، وبالتالي الإعلان عن عودة أخرى مستفيداً من تقييم كل المرحلة السابقة، إلا أن المسلّم به أن هذا التنظيم هو صنيعة الولايات المتحدة الأميركية باعتراف مسؤولين أميركيين على مستوى رفيع، كان أوضحها ما ذكرته هيلاري كلينتون في كتابها «خيارات صعبة». وهي تهمة لإدارة باراك أوباما، استخدمها دونالد ترامب في حملته الانتخابية. كذلك، من المسلّم به أن أميركا وتركيا وعدداً من الدول الأوروبية، كانت لهم اليد الطولى في الحرص على بقاء التنظيم، وأداء الدور المطلوب منه واستثماره بهدف الحصول على مكتسبات جغرافية وجيوسياسية والاستحواذ على الثروات. وقد اعتمدوا استراتيجية «صناعة الوحش» ليعودوا ويعلنوا محاربته، ولو بصورة شكلية، بهدف التنافس على المكتسبات، تحت عنوان محاربته. تركيا قامت بذلك، عبر مجموعة عمليات كان آخرها «نبع السلام»، والتي فرض ترامب على إثرها مجموعة عقوبات على أنقرة، تضمّنت زيادة الرسوم على واردات الصلب التركية بنسبة 50 في المئة، ووقف المفاوضات بشأن اتفاق تجاري مع أنقرة بقيمة 100 مليار دولار، وعقوبات أخرى على شخصيات تركية. ثم ما لبث أن أعلن ترامب أنه سيُبقي على قوة صغيرة الحجم من القوات الأميركية في جنوب سوريا لمواصلة إعاقة فلول تنظيم «داعش».
نهاية العام الماضي، أشارت معلومات إلى أنّ الولايات المتحدة تسعى بخطى حثيثة، لخلق نطاق جغرافي لها في منطقة غربي الأنبار الصحراوية، الواقعة بين سوريا والعراق، لتُعلن لاحقاً عن إقليم جديد ومستقل عن العراق وعن جزء من سوريا، يكون بمثابة طرف الخيط الذي سيفرط سبحة «مشروع الشرق الأوسط الجديد». ويعني ذلك التوظيف في ما بات يسمَّى «مشروع صفقة القرن»، عبر تقسيم المقسَّم وتجزيء المجزَّأ وتفتيت المفتَّت، وذلك من خلال تشكيل قوة مدعومة أميركياً وصهيونياً، ومن بعض الدول الخليجية، تضم ما يقارب 47 ألف إرهابي باستخدام تكتيك «تحطيم الأسوار» لبعض السجون، إضافة إلى تشكيل قوات مسلَّحة أخرى وفق التفصيل الآتي: • إطلاق سراح 11 ألف عنصر من «داعش» من السجون التابعة لـ«قوات سوريا الديموقراطية» شرقي الفرات. • إطلاق سراح 16 ألف عنصر من «داعش» من السجون في قاعدتي «عين الأسد» و«الحبانية» التابعتين للقوات الأميركية. • إطلاق سراح 6 آلاف عنصر من «داعش» من سجن الحوت في محافظة ذي قار جنوب العراق. • تشكيل فصيل مسلَّح ممّا يسمّى صحوة الأنبار قوامه 14 ألف مسلَّح. • الاستفادة من أسلوب «حضانة الإرهاب»، التي تتولى مهمته المخيمات المخصّصة لعوائل التنظيم الإرهابي، حيث تشير التقارير إلى أنه في مخيم الهول وحده الواقع تحت سيطرة «قوات قسد» شرقي الفرات، هناك ما يفوق 70 ألف نسمة من عوائل الإرهابيين، من أكثر من 50 جنسية عربية وأجنبية، تقوم النساء فيه بدور تهيئة جيل جديد لـ«داعش» عبر إعادة نشر الأفكار التكفيرية وممارسة ما يسمى بالحسبة أو «الشرطة الدينية». في أيلول/ سبتمبر 2019، أصدر المحلّل الاستراتيجي الأميركي أنتوني كوردسمان، بالتعاون مع عبد الله طوقان وماكس مولوت، ورقة عمل عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأميركي (CSIS)، بعنوان: «عودة داعش في العراق وسوريا والشرق الأوسط»، قام فيها بتحليل ومقاطعة ثلاث دراسات ميدانية: الدراسة الأولى صدرت عن مؤسسة بحثية تابعة للكونغرس الأميركي، والثانية عن فريق للمراقبة الميدانية تابع للأمم المتحدة، والثالثة عن مؤسسة «راند» الأميركية. توقَّع كوردسمان في دراسته، عودة وتعافي التنظيم وارتفاع وتيرة عملياته العسكرية، وأشار إلى ستة محاور سيركِّز عليها «داعش» في الفترة المقبلة لـلتعافي والعودة، وهي: 1 - الاستراتيجية، 2- التكتيك، 3- بناء القوة، 4- التنظيم، 5- التوسع في التجنيد، 6- تجديد الموارد المالية وذلك لتحقيق هدفين هما: الهدف الأول: خلق حالة اضطراب متَّصل في المناطق التي فقدها التنظيم وانحسر نفوذه فيها، من أجل هز شرعية السلطة ومنع قوى السلطة والمعارضة من إعادة فرض النظام. الهدف الثاني: إثبات درجة ملحوظة من الحضور السياسي والعسكري، بحيث يظل حاضراً مذكِّراً الآخرين به على الدوام. أما بخصوص الأساليب التي سيتَّبعها التنظيم فيتوقَّع كوردسمان: ــ شنّ عمليات عسكرية متواصلة تعطي الانطباع باتساع نطاق وجوده، وبحسابات تجعله في مأمن من ضربات السلطة. وتبنِّي سياسة تطلق عليها أدبياته مصطلحات: الصحراء والسوط والصولة، بموجبها تتمركز بعض قواتها في مناطق صحراوية، ومنها تشن هجمات سريعة ثم تنسحب في مناطق عراقية مثل الأنبار، ديالى، صلاح الدين، كركوك. ــ شنّ هجمات من نمط آخر، تسعى إلى منع توسع النطاق الجغرافي للسلطة ومعها سيطرة مؤسسات الدولة وتوظيف التوترات الموجودة في مناطق معينة بين القوات الكردية والقبائل العربية، وتصوير الحضور العسكري الكردي كقوة احتلال، شمال شرق سوريا بشكل خاص. تجميع بقايا عناصر التنظيم المقاتلة التي تبعثرت بعد الهزائم، في كركوك والحويجة ورومر ورابعة في العراق. ويقول كوردسمان إن التنظيم سيتبنَّى تكتيكات عدّة لتحقيق استراتيجيته، تتلاءم مع ما تبقى له من قوة وتحافظ على عديده وهي: 1. التركيز على العمليات الانتحارية والاغتيالات. 2. شنّ هجمات تستهدف احتلال مناطق واسعة لفترة زمنية محدودة، ثم الانسحاب منها لخلق الانطباع بالقوة. 3. حرق المحاصيل في الأرياف المعادية له لإجبار الفلاحين على مغادرة الأرض، وإخضاعهم وابتزازهم، وخلق أزمات غذائية تساهم في إضعاف السلطة. 4. استعادة الاهتمام الإعلامي من خلال استئناف بعض التكتيكات الإعلامية. 5. شنّ هجمات إرهابية في الخارج. أما في ما يخص تأمين مصادر مالية جديدة بعدما فقد التنظيم موارد ضخمة، كان مصدرها التجارة والضرائب واستغلال النفط، فإنه سيعتمد على: 1. ما استطاع إنقاذه من أموال، والتي تصل إلى حوالى 300 مليون دولار يتم توظيفها حالياً عبر واجهات شرعية 2. توسيع شبكات التمويل واعتماد أساليب غير مركزية في العمل 3. ابتزاز التجمعات السكانية غير الموالية 4. أعمال التهريب والاتجار بالآثار 5. فرض الأتاوات على بيع الأراضي وعقود البناء 6. الاختطاف وطلب الفدية وبالرغم من عدم انتظام هذه الموارد، إلا أنها تبدو قادرة على تأمين دخل كافٍ لعودة نشطة بعد تحرر التنظيم من الكثير من نفقات الإدارة والإنفاق على عدد كبير من المقاتلين. هناك أربعة عوامل مساعدة على عودة التنظيم الإرهابي، وهي: العامل الأول: عدم انتهاء الحاجة الأميركية لتوظيف جديد العامل الثاني: الاستفادة من غياب الدولة ومؤسساتها وغياب المصالحات في بعض المناطق العامل الثالث: إعادة تقييم امتلاك التنظيم لجغرافيا ثابتة، والسعي باتجاه مرونة المواجهة العامل الرابع: الطابع اللامركزي الواضح لخطط العودة. فلا وضع المواجهة الميداني، ولا حالة التنظيم وفقدانه لقواته وهياكله القديمة، ولا اعتبارات تأمين ما تبقى من التنظيم، تسمح بعملية عودة تنتهج المركزية، الأمر الذي يعني أنه حتى بافتراض احتفاظ الزعيم الجديد بصلاحياته المركزية، فإن قيادته ستكون نظرية أكثر من كونها قيادة فعلية. كيف كان نشاط العمليات الإرهابية للتنظيم خلال عام 2019؟ بحسب موقع The Armed Conflict Location & Event Data Project (ACLED)، فإن هجمات التنظيم الإرهابي خلال عام 2019 بلغت 765 عملية موزَّعة على 12 دولة، وصل عدد ضحاياها إلى 1915 شخصاً، وكانت موزَّعة على الدول الآتية: العراق (338 عملية، 682 ضحية)، سوريا (211 عملية، 577 ضحية)، مصر (88 عملية، 231 ضحية)، أفغانستان (33 عملية، 131 ضحية)، نيجيريا (30 عملية، 73 ضحية)، اليمن (24 عملية، 58 ضحية)، مالي (13 عملية، 91 ضحية)، باكستان (12 عملية، 28 ضحية)، ليبيا (9 عمليات، 38 ضحية)، الصومال (3 عمليات، 3 ضحايا)، الهند (عمليتان، ضحيتان)، بوركينا فاسو (عمليتان، ضحية واحدة). وبالتالي، فإن التنظيم ورغم خسارته للجغرافيا، إلا أنه لا يزال يسعى لتنفيذ عمليات موزَّعة على عدد من الدول يوحي من خلالها أنه نشط وقادر على الوصول. ولكن رغم ذلك، إلا أنَّ عدد عملياته انخفض في سوريا والعراق عام 2018، بنسبة 42% عن عام 2017، وانخفض عام 2019، 69% عن عام 2018، لتكون النسبة الإجمالية لانخفاض عدد العمليات عام 2019، 82% عن عام 2017، وهي نسبة كبيرة تثبِّت المشكلة العملياتية التي بات يعاني منها التنظيم. هل من علاقة بين الاستهداف الأميركي لمنطقة القائم ومشروع عودة تنظيم «داعش»؟ استهدفت الطائرات الأميركية، نهار السبت 28 كانون الأول/ ديسمبر 2019، مقارّ لـ«الحشد الشعبي» في منطقة القائم العراقية، الواقعة على طول نهر الفرات على الحدود السورية ــــ العراقية، وللمرة الأولى منذ تأسيس «الحشد الشعبي»، تتبنّى أميركا رسمياً استهدافاً لمقارّه، حيث تدخل منطقة القائم ضمن حسابات الأمن الاستراتيجي لأميركا والكيان الصهيوني، باعتبار أنها ستكون حلقة الوصل الإيرانية مع سوريا وجسرها نحو لبنان، وهي المنطقة الأقرب لقاعدة «عين الأسد» الأميركية، وتشرف على مجموعة ممرّات تتحرّك فيها القوات الأميركية بين العراق وسوريا. كذلك، إنها الرئة التي يتنفَّس منها «داعش»، ويتنقَّل من خلالها المئات من عناصر التنظيم الإرهابي إلى المناطق العراقية في صحراء الأنبار، وهي منطقة كانت قد حظرت أميركا سلاح الجو العراقي من التحليق فوقها.
ربما كانت الضربة تأتي في سياق المشروع الأميركي الكبير لإعادة إحياء وتفعيل التنظيم الإرهابي في تلك المنطقة، وصولًا إلى إعلان إقليم سني، مستقل عن العراق يتم تنفيذ كل ما سلف ذكره فيه. ولكن المحسوم، أنَّ حسابات الحقل لم تكن كحسابات البيدر، بعدما قام «الحشد الشعبي» بردٍّ ذكي تمثَّل في محاصرة واقتحام السفارة الأميركية في بغداد، موجِّهاً صفعة لدونالد ترامب شخصياً ولإدارته ومشروعه في المنطقة، وموجّهاً رسالة مفادها: نحن على علم بمشروعك وقادرون على شلّ حركة قواعدك وأدواتك، والتحرّك باستراتيجية. فهل لا تزال ورقة «إعادة إحياء داعش» ضمن الحسابات الأميركية؟ «الحشد الشعبي» في العراق، والمقاومة الشعبية في سوريا، أجابتا بشكل أولي عن هذا السؤال، يبقى أن ننتظر متغيرات عام 2020.