«تحرير الشام» تتسلّل إلى ريف حلب: تركيا تضغط... بالجولاني أيضاً
لا يمكن الفصل بين التهديدات التركية بشنّ هجوم جديد على مناطق سيطرة الأكراد في الشمال السوري، وبين عمليات الإحلال والتبديل الجارية في صفوف الفصائل التابعة لأنقرة، والتي تمهّد الطريق أمام «هيئة تحرير الشام» للتمدّد إلى ريف حلب. ومن شأن هذا التمدّد أن يمثّل قفزة كبيرة في مخطّط توحيد المناطق التي تسيطر عليها تركيا، توازياً مع استمرار العمل على مشروع «المنطقة الآمنة»، التي يحاول رجب طيب إردوغان استثمار احتدام الصراع الدولي حول أوكرانيا، لإمرارها
لم يخرج اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، الذي انعقد أوّل من أمس، بأيّ جديد، كما لم يحسم أمر العملية العسكرية التي يهدّد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بتنفيذها في الشمال السوري، ليترك بذلك الباب موارباً، تماماً مثلما فعل إردوغان، في ما من شأنه تصدير موقف موحّد بين المؤسّسات التركية إزاء الأوضاع على الحدود الجنوبية، وبالتالي تحصين إعلان إردوغان، وتقديم دفعة لمسعاه الهادف إلى تحقيق أكبر مكاسب ممكنة من الحرب الروسية في أوكرانيا، والتي فرضت على الغرب إعادة احتضان أنقرة، بهدف مضاعفة الضغوط على موسكو. الاجتماع الذي استمرّ نحو ساعتين، حاول الخروج بقرارات مرنة، تحمل رسائل عدّة، بعضها مُوجَّه إلى روسيا وبعضها الآخر إلى الولايات المتحدة، إذ أكد أن «أنقرة التزمت دائماً بروح وقانون التحالفات الدولية، وأنها تنتظر نفس المسؤولية والصدق من حلفائها»، مضيفاً أن «العمليات العسكرية الجارية، وتلك التي ستُنفَّذ على حدودنا الجنوبية، ضرورة لأمننا القومي، ولا تستهدف سيادة دول الجوار». وفي محاولة لوضع الكُرة في ملعب واشنطن، ضمن لعبة التفاوض الجارية حالياً، فقد ذكّر المجلس بموقف تركيا من «قسد» وحزب «الاتحاد الديموقراطي» الذي يقودها، والذي تَعتبره تركيا امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني» المصنّف على لوائح الإرهاب التركية، حيث قال البيان: «وجّهنا دعوة إلى الدول التي تنتهك القانون الدولي بدعم الإرهاب، للتخلّي عن موقفها والأخذ في الحسبان مخاوف تركيا الأمنية».
وفي وقت تشير فيه التطوّرات الميدانية إلى عدم حصول تركيا على أيّ ضوء أخضر أميركي لشنّ العملية، حتى الآن، ذكّرت روسيا بحضورها الميداني عبر تنفيذ طلعات جوّية مكثفة فوق مناطق سيطرة الفصائل التابعة لتركيا، تخلّلها إطلاق قذائف متفجّرة. كما خرجت عنها تصريحات تُعتبر الأولى من نوعها لنفي الإشاعات التي تردّدت أخيراً حول انسحاب قوّاتها من سوريا، والتي لم تعلّق عليها موسكو طيلة الشهر الماضي، إذ أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في لقاء تلفزيوني، أن «القوات الروسية الموجودة في سوريا، والتي جاءت بناءً على طلب الحكومة الشرعية، ستتابع دعمها دمشق لاستعادة جميع المناطق وتوحيد البلاد». وحذّر لافروف، الذي ركّز على عدم شرعية الوجود العسكري الأميركي، من مخاطر دعم واشنطن النزعة الانفصالية الكردية على وحدة الأراضي السورية. إلّا أن الوزير الروسي بدا أكثر مرونة خلال حديثه عن تركيا، حيث ذكّر بالاتفاقات الموقّعة مع أنقرة، والتي تفرض على الأخيرة «عزل الفصائل الإرهابية» في إدلب، وفتح طريق حلب - اللاذقية، معتبراً أن «تحقيق ما اتفق عليه الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان قبل عدّة سنوات لا يسير على ما يرام». بدورها، كثّفت واشنطن من نشاطها العسكري في مناطق التماس مع مواقع انتشار الفصائل المدعومة من أنقرة، عبر تسيير دوريات وتنفيذ طلعات جوّية استطلاعية، تخلّلها استهداف تحذيري على مقربة من نقطة مراقبة تركية في محيط رأس العين غرب محافظة الحسكة، من دون وقوع أيّ إصابات.
في غضون ذلك، بدأت «هيئة تحرير الشام» التغلغل في مناطق في ريف حلب، مُستغِلّة حالة الاقتتال والانقسام الداخلي بين الفصائل التابعة لتركيا. وأكدت مصادر «جهادية» أن عدداً من المقاتلين دخلوا إلى جنديرس في محيط عفرين في ريف حلب الشمالي، وسط تحذيرات أطلقها ناشطون معارضون من توسّع انتشار «الهيئة» التي تملك علاقات متينة مع فصائل عديدة، من بينها «كتائب» وقيادات تعمل في صفوف الفصائل في مناطق «نبع السلام» و«غصن الزيتون». ويعني هذا السيناريو تمكُّن الجولاني من مدّ نفوذه إلى تلك المناطق بشكل تدريجي، وهو ما يتوافق مع رغبة تركيا في توحيد مساحة سيطرتها، واستثمار الجولاني الذي أثبت خضوعه التامّ لها، واستقلاليّته المالية في الوقت نفسه، في تنفيذ المخطّط المذكور.
تحاول تركيا تسويق الجولاني على أنه «معتدل» عبر تكليفه بمهام القضاء على الفصائل المتشدّدة بشكل تدريجي
وتأتي تحرّكات «تحرير الشام» بعد نحو 10 أيام على اجتماع يُعتبر الأوّل من نوعه بين الجولاني وبين وفد عسكري واستخباراتي تركي في معبر باب الهوى الحدودي في إدلب، لم تتسرّب عنه أيّ معلومات دقيقة، نتيجة مشاركة «دائرة ضيقة جدّاً» من أتباع الجولاني فيه، بالإضافة إلى الطوق الأمني المشدّد الذي فُرض خلال عقده. بيد أن التطوّرات الميدانية التي تلت اللقاء يمكن أن تشرح بعض النقاط التي تمّ الاتفاق عليها، ومن بينها التخلّص من جماعة «أنصار الإسلام»، بعد أن تَكرّر اسم الجماعة أخيراً في وسائل الإعلام الأميركية، إذ اعتقلت «الهيئة» القيادي البارز في «أنصار الإسلام»، أبو الدرداء الكردي، وقياديَّيْن آخرين في مناطق عدّة في ريفَي إدلب واللاذقية، في سيناريو مطابق تماماً للإجراءات التي قامت بها «الهيئة» خلال عمليات إنهاء وجود فصائل متشدّدة في وقت سابق، ومن بينها «حرّاس الدين»، وسط توقّعات بأن تشهد مناطق انتشار «أنصار الإسلام» مواجهات مسلّحة للسيطرة على مقرّاتها وإنهاء وجودها.
وتحاول تركيا تسويق الجولاني، الذي أصبح «رجُلها الأكثر موثوقية» على أنه «معتدل»، عبر تكليفه بمهام القضاء على الفصائل المتشدّدة بشكل تدريجي، الأمر الذي يُعتبر تمهيداً للدور اللاحق الذي سيلعبه مستقبلاً بعد توغّله أكثر في مناطق سيطرة أنقرة شمالي حلب وبعض مناطق الرقة، خصوصاً أنه بات يتمتّع بعلاقات «طيّبة» مع واشنطن، التي استثمرته خلال عمليتَي اغتيال زعيمَي تنظيم «داعش» السابقَين أبو بكر البغدادي، وخليفته أبو إبراهيم القرشي، واللذين كانا يختبئان قرب الحدود التركية في مناطق يسيطر عليها الجولاني. في السياق ذاته، يأتي إعلان تركيا اعتقال «مسؤول بارز» في تنظيم «داعش» إثر عملية أمنية في مدينة إسطنبول التركية، روّجت وسائل إعلام تركية أنه الزعيم الجديد للتنظيم المُكنّى الحسن الهاشمي القرشي، من دون أن تتوفّر معلومات موثوقة حول حقيقة الدور الذي كان يلعبه، ليعطي ذلك دفعة كبيرة لأنقرة في السباق الدولي لـ«محاربة الإرهاب»، ومحاولة تركيا سحب ذرائع واشنطن في دعمها لـ«قسد» عبر تقديم الأخيرة كمساهم أكبر في محاربة «داعش».
بشكل عام، وعلى الرغم من تراجع مؤشّرات قيام أنقرة بشنّ عملية عسكرية جديدة في سوريا، تشير التطورات الميدانية والعسكرية والسياسية الأخيرة إلى أن تركيا عازمة على مواصلة ضغطها بحثاً عن أكبر مكاسب ممكنة من الحرب الروسية في أوكرانيا، سواءً كانت هذه المكاسب قضم المزيد من الأراضي لإقامة مشروع «المنطقة الآمنة» الذي يجده إردوغان فرصة للتخلّص من اللاجئين السوريين، إضافة إلى تشكيل طوق يبعد خطر الأكراد عن حدوده، وإيجاد موطئ قدم دائم في الشمال السوري، أو عبر رفع القيود الأميركية المفروضة عليها في جانب التسليح، وإتمام عمليات بيع مقاتلات أميركية تريدها، إضافة إلى إعادتها إلى برنامج طائرات «F35» الذي أُبعدت عنه على خلفية شراء منظومة «S400» الروسية، فضلاً عن تحصيل دور أكبر في «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) الذي ينتظر موافقة تركية مدفوعة الثمن للقبول بانضمام فنلندا والسويد إليه.