تتباين الآراء حول أسباب تواتر العمليات العسكرية لتنظيم «داعش» في الآونة الأخيرة، حتى بدا وكأنه لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع بتفجير أو كمين أو اغتيال أو هجوم خاطف، يقوم به هذا التنظيم في مناطق متفرقة من البادية السورية، الممتدة بين أرياف محافظات الرقة وحماة وحمص ودير الزور، مستهدفاً أمنيين وعسكريين من جيش النظام أو القوات الموالية لإيران أو القوات الكردية أو الخبراء الروس، كان أبرزها اغتيال الجنرال الروسي فيتشسلاف غلادكيخ في شهر أغسطس (آب) الفائت، وكان آخرها مهاجمة سيارات مبيت للجيش السوري على طريق تدمر– دير الزور، في آخر يوم من العام المنصرم، ذهب ضحيتها أكثر من أربعين عسكرياً وضابطاً، تلاها في مطلع العام الجديد مهاجمة حافلات نقل وصهاريج وقود، شمال محافظة حماة، أدت لمقتل خمسة عشر عسكرياً على الأقل من قوات النظام والمقاتلين التابعين لها.
والحال، على الرغم من الإعلان الأميركي عن تصفية تنظيم «داعش» في ربيع 2019، واستسلام المئات من مقاتليه إثر سقوط آخر معاقله في قرية الباغوز قرب دير الزور، ونجاح واشنطن في قتل زعيمه البغدادي، وعلى الرغم من الحملات الجوية والبرية التي نفذتها القوات الروسية وجيش النظام في البادية السورية لملاحقة فلوله، وكان آخرها عملية «الصحراء البيضاء»، وأيضاً على الرغم من تمكن قوات أمنية عراقية من قتل واعتقال عديد من قادته وكوادره، واضطرار «جبهة النصرة»، خلال الشهور المنصرمة، لملاحقة واعتقال أهم ناشطي «داعش» ممن لجأوا إلى مناطق سيطرتها؛ على الرغم من كل ذلك يبدو أن هذا التنظيم قد نجا من الموت والهلاك، وأعاد الروح لنشاطاته العسكرية، معتمداً أسلوب حرب العصابات، ومستقوياً بقدرة عناصره على الانتشار والتخفي ضمن الطبيعة الجغرافية للبادية السورية المترامية الأطراف، والمتصلة مع الحدود العراقية والأردنية والتركية.
هل يصح القول بأن خصوصية «داعش»، ببنيته الجهادية ولحمته الآيديولوجية، وما راكمه من كفاءات وإمكانيات عسكرية ومادية، تمنحه القدرة على التجدد وإعادة إنتاج ذاته بذاته متجاوزاً الضربات الأمنية أياً تكن شدتها، ما يفسر عودته اللافتة إلى المشهد السوري؟ أم ينبغي البحث، هذه المرة، عن الأسباب في عوامل خارجية، ربطاً بالخسائر الكبيرة التي تكبدها التنظيم على صعيد قادته وكوادره، ومصادرة جل ما يمتلكه من مال وأسلحة وعتاد، وربطاً بانحسار حاضنته الشعبية، وتنامي حالة الجفاء بينه وبين الجماعات الأهلية التي اعتاد الاستناد إليها، بما يعني ربط تسعير نشاطه الراهن بتنامي حاجة بعض الأطراف المتصارعة لتوظيفه كورقة سياسية وعسكرية في معارك الابتزاز والنفوذ؟!
من هذه القناة، يمكن النظر إلى حاجة حكام طهران والنظام السوري لإعادة الروح لدور «داعش»، إنْ لقطع الطريق على أي خطة للتسوية السياسية، وإنْ للتلويح ببعبع الإرهاب لمحاصرة ردود فعل الناس ضد معاناة معيشية لم تعد تطاق، وإنْ - وهو ما دأبتا عليه تاريخياً - لتأجيج المخاوف الغربية من الجهادية المتشددة، وتحصيل قبول دولي بهما، كأهون الشرور، ولا يغير هذه الحقيقة ازدياد أعداد قتلاهما على يد «داعش»، فذلك يجعل رهانهما مجدياً وقابلاً للتصديق؛ بل يؤكدها توقيت تصاعد عملياته العسكرية مع وصول رئيس جديد للبيت الأبيض، بغرض تغذية التحذيرات الأميركية والغربية المتكررة من خطر عودة «داعش»، ولعل أولى ثمارها إرسال حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول» إلى شرق المتوسط.
لنتذكر إطلاق سراح مئات المتطرفين من سجون العراق وسوريا الذين شكلوا النواة الأولى لتأسيس «داعش»، ثم ما أثير عن تواطؤ حكومتي البلدين لتسهيل سيطرته على مدينة الموصل وعلى كميات وفيرة من السلاح والذخائر، ثم تمكينه من الاستيلاء على مدينتي الرقة وتدمر وقطاع واسع من البادية السورية، وأيضاً لنتذكر اكتشاف كوادر لـ«داعش» مرتبطين بالأجهزة الأمنية السورية، ثم وجوه التعاون الاقتصادي بين الطرفين في مجال تسويق النفط وتبادل المنتجات الزراعية، والأسوأ التواطؤ العسكري بينهما في توقيت بعض المعارك والانسحابات لتسهيل سحق مناطق التمرد المستعصية؟ ثم أليست ذات دلالة عبارة زلق بها أحد قادة «الحرس الثوري»، تفوح بقلق من أن تفضي الجدية في القضاء على «داعش»، لحرمان بلاده من إحدى شبكات اللعب والتأثير في المنطقة؟!
ومن القناة نفسها يصح النظر إلى دور حكومة أنقرة في تنشيط «داعش»، ما دامت صاحبة مصلحة حقيقية في توظيفه لأهداف متنوعة: أولاً، لضرب القوات الكردية ومحاصرتها، وللنيل اغتيالاً من قادتها وكوادرها، وثانياً، لإشغال موسكو وتخفيف ضغطها على مدينة إدلب؛ حيث تهدد نشاطات «داعش» الأخيرة الاستقرار في حقول النفط والغاز والفوسفات التي تستثمرها الشركات الروسية، ما يستدعي إعادة توجيه الجهود صوب البادية السورية، بدليل عنف قصف الطيران الروسي لهذه المنطقة، وتواتر حملات الاجتياح والتطهير التي تقوم بها الكتائب الموالية، وثالثاً، لركوب موجة الفوبيا العالمية من الإرهاب الداعشي، كي تفرض نفسها كخيار للاعتدال، كما يحاول الإسلام السياسي عادة، عساها تحسن من فرص تقبلها في أوساط الرأي العام العربي والغربي.
لنتذكر كيف فتحت حكومة إردوغان الحدود على مصراعيها لتسريب الآلاف من الكوادر «الجهادية» من الشرق والغرب، كي ترفد تنظيم «داعش» وتمده بالخبرات والأموال، وأيضاً ما أثير عن اكتشاف مخازن أسلحة نوعية لـ«داعش» فوق الأراضي التركية، وعن عمليات عسكرية أُعلنت باسم «داعش»، وتبين أن من قام بها هم عناصر من جماعات إسلاموية متشددة لها صلات ملتبسة مع أجهزة الأمن التركية.
واستدراكاً، ما كانت الأسباب السابقة عن عودة الروح لـ«داعش»، والتي يحلو للبعض إدراجها في إطار نظرية المؤامرة، أن تأخذ طريقها إلى الضوء والجدل، لولا حالة الإبهام والتعمية التي تلف هذا التنظيم بنشأته وكوادره وقادته، وغموض بنيته الداخلية وآليات تشكيل هيئاته، ما يوفر الفرص لاختراق صفوفه وزرع كفاءات استخباراتية يمكنها تجيير بعض نشاطاته لمصلحة الجهة الموالية لها، والأهم لولا انحطاط الصراع السياسي في المنطقة نحو عنف طائفي بغيض، يحدوه اكتفاء مقصود من قبل جميع الأطراف التي تدعي مناهضة «داعش»، بالحلول الأمنية والعسكرية وتجاهل العوامل السياسية والمعرفية والاقتصادية، كالاستبداد والتمييز والجهل والفقر والفساد، والتي من دون معالجتها لا يمكن هزيمة هذه الآفة جذرياً وتجفيف منابعها.