مكننا أن نختار عنواناً آخر لكتاب After Isis: America, Iran and the Struggle for the Middle East الصادر حديثاً عن Gefen Publishing House. قد يكون «الرؤية العِبرية للشرق الأوسط ما بعد داعش»، وهذا عائد إلى خلفية المؤلف، فسيث فرانتزمان، الباحث في شؤون الشرق الأوسط، حاصل على درجة البكالوريوس من «جامعة أريزونا» ودكتوراه من «الجامعة العبرية» في القدس. يرصد فرانتزمان في كتابه صعود وانهيار التنظيمات الراديكالية التي اجتاحت الشرق الأوسط خصوصاً بين عامي 2013-2019 حين بزغ نجم تنظيم «داعش» الإرهابي، بالإضافة إلى تنظير فرانتزمان حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط في ظلّ صعود قيادات جديدة، وفكر علني مُغاير في مصر والسعودية والإمارات مُعاد لتيارات الإسلام السياسي، يرى في الكيان الصهيوني حليفاً له.
يسلط فرانتزمان الضوء على صراع القوى بين محورَين في الحرب على تنظيم «داعش» في الأراضي السورية والعراقية هما: الولايات المتحدة وإيران، بالإضافة إلى دور قوات البشمركة الكردية في الحرب على الإرهاب وتنامي قوتها، ما دفع الدولة التركية على رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الدخول في حرب مفتوحة مع الأكراد، خصوصاً في سوريا لاعتباره أن قوة الوجود الكردي في العراق وسوريا تهدّد الأمن القومي التركي. كذلك يسرد فرانتزمان مشاهداته الحية من ميدان المعركة في العراق مع تنظيم «داعش» التي تدلّ على فشل المحور الغربي ككل في إدارة أزمة ظهور تنظيم «داعش». وقد أدت العشوائية العسكرية وعجز الحكومات عربية وأوروبية وفشل المجتمع المدني رغم كل الدعم المالي الذي حصل عليه في التعامل مع التهديد الإرهابي وتوسّع «داعش»، ما أدى إلى قتل مئات الآلاف من الأبرياء وفتح باب الهجرة العشوائية من الشرق الأوسط إلى أوروبا، بالإضافة إلى تدمير مدن بأكملها. يركز فرانتزمان على الإبادة الجماعية المروّعة التي قام بها «داعش» بحق الشعب اليزيدي في منطقة سنجار وما حولها عام 2014. وقد زار فرانتزمان المنطقة بعد فترة وجيزة من عملية الإبادة، وكتب واصفاً قبراً جماعياً: «وجدت عظاماً بارزة من الأرض، وجماجم بها ثقوب نتيجة الرصاص، وشعر قد يعود لنساء ملطخ بالدم ومُلتفّ على الصخور، وملابس مقطعة في الأرجاء، وعصابات للعيون ملقاة في مُحيط المكان». يبدو كمشهد لجحيم يوازي جحيم دانتي ولكن على أرض العراق. وقد لفت نظر فرانتزمان عدم وجود أيّ محققين دوليين في سنجار وما حولها، ولا منظّمات مجتمع مدني، ولا لجان طبية لنقل رفات الموتى ودفنها. كان العالم صامتاً بكلّ ما لديه من مجالس لحقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية وجلسات مجلس الأمن وقواعد الطائرات بلا طيار.
خلال عمل فرانتزمان في الكتاب أي بعد خمس سنوات على الإبادة، يقول: «شاهدتُ صوراً جديدة لمنطقة سنجار وما حولها وكانت لا تزال في حالة خراب وكان الناس ما زالوا يعيشون في خيام وأكواخ وبلا أيّ خدمات أساسية للحياة كالمياه والخدمات الطبية والصرف الصحي، وكان الناجون ما زالوا يجمعون أشلاء ذويهم من تحت ركام المباني». وقد أشار فرانتزمان إلى صعوبة عمل اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (icmp) مع شركائها في العراق على اتّخاذ خطوات عاجلة لتحديد هوية المفقودين، حيث نوّه فرانتزمان إلى وجود أكثر من 200 مقبرة جماعية في العراق، وهذا ما تم اكتشافه حتى الآن، بالإضافة إلى ما يوجد في سوريا، وقد احتوت مقبرة جماعية اكتُشفت حديثاً بالقرب من الرقة على 3500 جثة. بدورها، أشارت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين في عام 2018 أي بعد مرور أربع سنوات على احتلال «داعش» محافظة نينوى في العراق (تشمل مقاطعة سنجار ومدينة الموصل) إلى أن الفرق التطوعية التابعة لها في الموصل تجمع الرفات البشري وتخزنه بشكل مؤقت وفي ظروف صعبة، وأنه لم يتم البدء بعملية منهجية لنبش المقابر الجماعية في سنجار بعد. ويتتبع فرانتزمان التواريخ والأحداث لصعود «داعش» حتى انهياره ببطء وفقدان سيطرته على المناطق الشاسعة من العراق وسوريا التي كان قد غزاها في الأصل في ظلّ تفكك الدولة وضعفها في العراق والحرب الدائرة في سوريا. وبدأ فرانتزمان ببناء نتائج لما أسماه «غزو» داعش لدولتين عربيتين. وجاء على رأس نتائجه ملف الهجرة وتدفق اللاجئين من الشرق الأوسط على شواطئ أوروبا، وربط بين معدلات الهجرة ونجاح مقاتلي البشمركة الأكراد وقوات الحشد الشعبي الشيعي في العراق المدعومة إيرانياً وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم «داعش». وينتقل فرانتزمان إلى نتيجة أخرى لصعود وانهيار «داعش وهو ما عقب ذلك من قوة للأكراد وتنامي طموحاتهم من أجل تحقيق الاستقلال في كلّ من سوريا والعراق، ما رفع مستوى التوتر في المنطقة حيث اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تكوّن كيان كردي على الحدود التركية يعدّ تهديداً لنظامه. والنتيجة الثالثة للحرب على «داعش» كانت قضية التحالفات العسكرية في ميدان القتال. سلّط فرانتزمان الضوء على ما أسماه «التحالفات المؤقتة» التي تم تشكيلها خلال الحرب على «داعش»، وقد تم تفكيكها سريعاً عندما أعلنت الولايات المتّحدة القضاء على تنظيم «داعش»، أو بمعنى أدق فكّ الارتباط وعودة كلّ قوة إلى معسكرها الإيديولوجي الخاص بها. فقد عادت قوات الحشد الشعبي الشيعية المدعومة إيرانياً لتعادي القوات الأميركية والمتحالفين معها من البشمركة الكردية، وخرج المكون السني من معادلة السلطة في العراق لاتّهامه بدعم الإرهاب الداعشي. أدى ذلك إلى تغييرات أكثر عمقاً في التفكير السياسي في الشرق الأوسط كله. على سبيل المثال، توسّع النفوذ الإيراني في كلّ من العراق وسوريا، ما شجع السعودية والإمارات على التفكير بشكل متزايد تجاه التعامل مع الكيان الصهيوني كحليف، بالإضافة إلى إعادة رسم السياسات الأمنية والاستراتيجية لكلّ مِن الأردن ومصر. وعلى الرغم من أن «داعش» والمرحلة التي تلته أسوأ بمراحل من إرهاب «القاعدة» في عهد أسامة بن لادن، إلّا أنّ فرانتزمان متفائل من النهج المتّبع في البلدان العربية والتغيرات السياسية والفكرية العميقة في ما يتعلق بملف عدم دعم قوى الإسلام السياسي، وتعديل الخطاب الديني، والتعامل مع المؤسسات الدولية بشكل أكثر نيوليبرالية، وانتفاء مفاهيم التبعية لأميركا، بل تسويغ الأمر على أنه بناء علاقات مشتركة بين البلدان العربية والكيان الصهيوني والولايات المتّحدة «من أجل أمان المنطقة ضد الإرهاب الإسلامي وضد تنامي النفوذ الإيراني»! ويعوّل فرانتزمان على أن «داعش» ليس ظاهرة عابرة في عالم الجهاد ولا يشكل ذروة التطرّف الإسلامي ليختفي بعدها، بل هو خطر محدق ومتجدّد، ما سيجعل الدول العربية مُجبرة على انتهاج سياسات جديدة غير تلك التي كانت عليها منذ حقب الخمسينات والستينات. ويبدو فرانتزمان حالماً بشكل كبير بخصوص التغييرات في طبيعة الحكم في السعودية، ومطمئناً لإحكام الجيش على الأمور في مصر، ومبتهجاً بسياسات عائلة زايد الإماراتية في المنطقة.