لبنانية شريدة داعش: من حي المنكوبين إلى مخيم الهول
خلف السياج الحديد في مخيم الهول، شمال شرق سوريا، حيث تمّ تجميع عوائل مقاتلي "داعش"، بعد القضاء على آخر معاقله في منطقة الباغوز، تقف فتاة نحيلة الجسد، فتاة تخلت عن عباءة داعش واستبدلت خمارها الأسود بخمارٍ أحمر، تنادي على أحد المصورين وتقول: "إسمي أمال محمد السوسي، عمري 20 سنة، بدي وصّل رسالة لأهلي بلبنان".
رسالة آمال لم يبق لنساء داعش، من الجنسيات الأجنبية، أي وسيلة اتصال. مقاتلو داعش، الذين لم يوفروا وسيلةً إلاّ وبثوا من خلالها الرعب في نفوس البشرية، من خلال فيديوهات القتل والتعذيب والحرق، تلجأ نساؤهم إلى كاميرات الصحافيين والصحافيات، ليبعثن من خلالهم رسائل إلى ذويهن. بكلماتٍ مقتضبةٍ، ينقلن عبرها معاناتهن وأشواقهن وآمالهن في النجاة. يخبرن قصّتهن بإيجاز سريع ومتلهّف. وكيف يمكن للأيام والسنوات أن تختصر بثوانٍ؟
وصلت رسالة آمال إلى مكاتب "المدن" في بيروت. أعدتُ سماع رسالتها أكثر من مرة. من هي آمال هذه، التي أحمل مشاعرها تسجيلاً مرئياً في ذاكرة هاتفي النقال؟
تقول: "هددني زوجي. قال يا بروح معه على سوريا يا بياخذلي بنتي. انا أكيد ما بترك بنتي...". هي زوجة تجبرها القوانين، ويجبرها الشرع، وحتى العادات والتقاليد على اتباع زوجها. وهي أم قاصر. كانت طفلة حين تزوجت، لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها. أنجبت طفلة أولى ثم ثانية، وتخلت عن أمانها الشخصي، وانتزعت خوفها من قلبها، مقابل توفير الدفء والأمان لطفليها.
وتردد في التسجيل: "اسألوا عن بيت محمد السوسي بحي المنكوبين. الكل بيعرف وين". بين طيات صوتها ينبعث فرح طفولي. أخالها عادت بذاكرتها طفلةً في أزقة حيّها القديم، تعرّف بنفسها حين تُسأل عن نسبها: "أنا بنت محمد السوسي".
وتختتم رسالتها مستنجدة: "بقلهم لأهلي يساعدوني أنا ما عاد بقدر اتحمل". إمرأة ضعيفة، وحيدة، تعيش في خيمة يلفحها البرد القارس وطفلتيها.
إلى طرابلس من بيروت إلى حي المنكوبين، في طرابلس، حيث يقطن أهل آمال، رحلة تستغرق ساعة ونصف ساعة. ربما هي المدة ذاتها التي ستستغرقها الطائرة من مطار القامشلي في شمال سوريا، حيث تحتجز آمال، إلى مطار بيروت، لو سُمح لها بالرحيل.
عند مدخل الحي حاجز للجيش اللبناني، فعلى "المنكوبين" و"الفقراء" أن يظلوا محاصرين. داخل الحي، عملنا بتعليمات آمال، توقفنا عند أول عابر طريق لنسأله عن منزل محمد السوسي، ليشير إلينا إلى زقاق يتسع لسيارة واحدة. نظرات الريبة من سكان المنطقة تخترق حذرنا. الجميع يتهامس، يقترب أحدهم منا، مدَعياً أنه محمد السوسي، نرفض الإفصاح عن هدف زيارتنا. يخبرنا بعدها بأنه شقيقه وأن لمحمد قضية واحدة عالقة، هي قصة ابنته التي لا يعلمون عنها شيئاً.
عندما أفصحنا بأننا نحمل رسالة منها وعلينا إيصالها للأب، وافق على اصطحابنا إلى منزله.
في بيت الأسرة نستأذن وزميلي النساءَ بدخول المنزل. تستقبلنا والدة آمال، وتدعى "أديل" بحفاوة، تخبرنا عنها وتشير إلينا إلى صورها المعلقة في كل زاوية من المنزل. تتغيرعليّ ملامح آمال وهي من دون نقاب في صورها. أخاف أن تكون من أملك تسجيلها على هاتفي هي فتاة أخرى تنتحل شخصيتها وقصتها. ينتابني الخوف أن أسبب صدمة لوالدتها، التي تلح عليّ بأن تشاهد التسجيل، فيما نحن نصّرعلى انتظار الوالد لاقتناص رد فعلهما أمام الكاميرا.
الأحاديث عن آمال لا تنتهي، هي التي تزوجت بعمر السادسة عشرة من شاب يبلغ 25 ربيعاً، الذي أصبح مناصراً للشيخ أحمد الأسير في لبنان، قبل أن يقرر بعدها الالتحاق بداعش في سوريا، مهدداً إياها بأخذ الطفلة معه. أربعة أعوام مرتّ على رحيل آمال. اليوم "تعود" إلى أسرتها عبر الهاتف مستنجدةً. دموع والدتها وصراخها، وهي تستمع إلى الرسالة المصورة أبكى الحاضرين جميعاً، فليس هناك أصعب من الاستنجاد بشخصٍ لا يملك الحل.
مع انتهاء الرسالة، تنظرالوالدة إلى الكاميرا وتوجه رسالةً "مختصرةً" إلى آمال، "أنا ناطرة الدولة لتجيبك يا ماما، وإذا ما جابوك أنا طالعة جيبك". المصدر: المدن