«قبل نحو عام ونصف العام، فقدت أم أحمد ابنها الذي استشهد خلال قتاله في صفوف الجيش السوري، في كمين لمسلحي المعارضة في شرق حلب، حيث قام سكان إحدى القرى بدفن جثته في مقبرة القرية التي أدمى البحث عنها قدمي أم أحمد، لتتمكن من زيارة قبر ابنها وتبكيه، والآن فقدت زوجها أيضاً».
هذا ما تقوله جارتها التي تعيش حالياً في إحدى القرى في ريف حلب الشمالي، بعدما غادرت كباقي سكان حارتها حي مساكن هنانو في شرق المدينة مع اشتداد المعارك على حدود الحي، وارتفاع وتيرة القصف المدفعي والغارات الجوية. بصوت تحاول جاهدةً أن تجعله متزناً، فيما يكشف اهتزازه دمعة كانت تخفيها، تتحدث السيدة الحلبية، البالغة من العمر 50 عاماً، عن جارتها قائلة: «عندما استشهد ابنها لم تستطع أم أحمد، أن تخبر أحداً بأمره، فلو عرف المسلحون أن ابنها كان يقاتل في صفوف الجيش فستلحق بالعائلة الويلات، لذلك كانت تبكيه بصمت». تتوقف قليلاً عن الحديث قبل أن تتابع: «منذ نحو شهر نزح جميع سكان الحي، قرر زوجها النزوح إلى حلب الغربية الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث تعتبر تلك الأحياء آمنة وبعيدة عن القذائف والمعارك، قام بنقل أسرته وبعض أثاث منزله وقرر الاستقرار هناك». وتضيف لـ«السفير» أنه «قبل نحو ثلاثة أسابيع عاد أبو أحمد إلى الحي لجلب بعض الحاجيات من منزله، ليتزامن مروره مع غارة جوية كانت تشنها طائرة حربية على أحد مراكز المسلحين في الحي، ليسقط هو الآخر شهيداً». ويرزح السكان في حلب الشرقية تحت وابل من القصف والاشتباكات. «منذ دخول المسلحين لم نشهد يوماً من دون رصاص أو قذائف»، يقول طارق، وهو شاب ثلاثيني كان يعمل في ورشة للخياطة في ما مضى، ويعمل حالياً في بيع الأدوات المنزلية المستعملة. ويضيف طارق أنه «في البداية كانت المعارك بين المسلحين وبين نقاط الأمن والشرطة، ثم تحولت إلى صراعات سيطرة بين الفصائل المسلحة، والآن عادت المعارك من جديد بين الجيش والمسلحين الذين يحشدون قواتهم داخل أحيائنا». وفي وقت لا توجد فيه إحصاءات دقيقة عن عدد النازحين والمهجرين من حلب، فإنّ ناشطين يقدرون أن نحو نصف سكان حلب، التي كان يقطنها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة قبل بدء الأزمة، يعيشون في الوقت الحالي خارج ديارهم، سواء في محافظات أخرى (تعتبر منطقة الساحل أبرز المناطق التي استقبلت مهجرين من حلب)، أو حتى في قرى الريف الحلبي البعيد، أو أحياء حلب الغربية الخاضعة لسيطرة الحكومة، والتي شكلت حركة النزوح إليها ضغطاً سكانياً هائلاً، حوّل عدة مدارس وضواحي ومبان كانت قيد الإنشاء فيها إلى مخيمات لجوء مؤقت. «ننتظر انتهاء المعارك والعودة إلى منازلنا»... مقولة يجمع عليها النازحون والمهجرون، الذين بات معظمهم في الوقت الحالي عاطلاً عن العمل بعد توقف النشاط الاقتصادي في عاصمة سوريا الاقتصادية، إثر تعرض المدينة الصناعية وعدد كبير من المصانع في ضواحي حلب للسرقة والتدمير، بالإضافة إلى هجرة عدد كبير من رؤوس الأموال على دول مجاورة تعتبر أكثر أماناً. وبالرغم من الواقع الاقتصادي السيء للمدينة، إلا أن أبناءها «واثقون من قدرتهم على إعادة بنائها في وقت قياسي، فأبناء المدينة نشيطون جداً، ولا يرهقهم العمل»، يقول تاجر حلبي نزح إلى اللاذقية تاركاً خلفه تجارته ومستودعاته. ويتابع «فور توفر عنصر الأمان سيبدأ الجميع بالعمل، وستتحرك العجلة التجارية والصناعية». وهو أمر تعوّل عليه الحكومة السورية بشكل كبير على ما يبدو، حيث تسعى جاهدة إلى السيطرة على المدينة الصناعية (شمالي شرق حلب) وتأمينها لإعادة تشغيل المصانع، والتي تحتاج إعادتها إلى العمل إلى نحو 10 سنوات، وقروض ميسرة طويلة الأجل، بحسب ما يشير رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية المهندس فارس الشهابي. تعيش أم أحمد في الوقت الحالي مع ابنها الطالب في كلية العلوم في جامعة حلب. تعمل على تربية صغارها في حلب الغربية. ترقد أشلاء زوجها وجثمان ابنها في قبرين بعيدين تفصل بينهما معارك عنيفة، ترتفع وتيرتها بشكل مطرد، وتقترب رويداً من حلب الغربية التي لم تعد تعتبر آمنة أمام اشتداد المعارك في منطقة الليرمون في غرب حلب، والتي تمكن مسلحون متشددون من اقتحامها والسيطرة على عدة مبان فيها، بالتزامن مع قصف متواصل بالقذائف، واسطوانات الغاز المتفجرة والتي تحصد المزيد من الضحايا، مخلفة وراءها حكايات عديدة ومآسي طالت جميع منازل حلب بشقيها (الشرقي والغربي).