تحت تأثير الكارثة، نكفُّ عن الطعام، عن العمل، عن النوم وحتى عن الكلام، تركت أهلي في عدرا، ولا أعرف شيئاً عنهم، فكيف يكون شكل الحياة التي أحياها؟
عبد الله، الخارج من مدينة عدرا العمالية، يوم اجتياحها، صباح الأربعاء 11 كانون الأول الماضي، يروي ما حصل كأنه بالأمس، ويقول «ليلة سقوط عدرا، في السادسة إلا ربعاً صباحاً استيقظ أخي (محمد) ومعه زوجته (عبير أخت سارا زوجتي) اللذان يشاركاننا المنزل، اتصل بأهلي (جيراننا) وسألهم عن سبب أصوات الرصاص التي سمعناها، بالرغم من اعتيادنا عليها. في منزل العائلة كان أخي جهاد (علاء) وأبي وأمي، قلت لأخي اصطحب سارا وعبير إلى منزل الأهل لنمضي أيام العاصفة معهم، لا أنسى دقيقة واحدة من ذلك اليوم، حضّرت نفسي وهممت بالخروج من دون أن أتناول فطوري على غير عادة. قالت لي سارا خليك لا تروح.. قلت لها إنني مضطر. اقتربت مني وقبلت وجهي، ثم أغلق ذلك الباب الذي لم أعد إليه بعدها».
المدينة عبارة عن تسعة أبراج بشكل صندوق مفتوح، يتوسطها مجمع الهلال الأحمر السوري الذي كان مركزاً لإيواء النازحين من حرستا ودوما، قبل أن يصبح بعد اجتياح المدينة مركزاً للمسلحين.
وكانت أعداد الوافدين إلى المدينة قد تضاعفت في الصيف إلى ما يزيد عن 150 ألف نسمة، بينما عدد سكانها الأصليين لا يتجاوز الخمسين ألفا، يفصلها عن عدرا البلد الطريق الدولي، أو ما يُعرف بجسر بغداد، و«لا أكشف سراً إن قلت إن اللجان المكلفة حراسة المدينة لم تكنعلى قدر المسؤولية بالشكل الصحيح». هكذا وصف عبد الله الوضع في عدرا العمالية.
يتابع عبد الله «خرجت وأنا ألتفت خلفي، كنت قلقاً لا أعرفمماذا، شوارع فارغة وهدوء مخيف لا يشوبه إلا مطر غزير ونباح الكلاب. وصلت الى عملي حوالي الساعة السابعة إلا ربعاً، ليتصل أخي محمد من بيت أهلي، ويقول لي: لا تعد إلى المدينة، لقد امتلأت بالمسلحين. صعقت، حاولت العودة، لكن لم أستطع الوصول لأن الطريق عندها كان قد قطع باتجاه المدينة، قال لي: رأيتهم.. رأيتهم يا عبد الله كلهم بلحىً طويلة، ويحملون السواطير والسيوف، دخلوا حوالي السادسة صباحا من جهة التوسع، الجزيرتان 14 و16، حيث يقيم المهجرون، من هناك خرج معهم بعض الملثمين وبدأوا بالانتشار، دخل بعدها ثلاثة برادات خزن كبيرة من جهة الضمير، من المفروض أنها مغلقة ولا تفتح إلابيد الجمارك، وإذ بها مليئة بالمسلحين».
في اليوم الأول كان الوضع مأساوياً بكل ما تعنيه الكلمة، قطعوا خطوط الهاتف الأرضية مباشرة، هجموا على المخفر والمركز الصحي والمخبز، قتلوا وذبحوا وأحرقوا، مثلوا بجثث البشربشكل بربري، حتى أنهم علقوا رأس الطبيب المناوب على باب المستوصف ورموا جثث العاملين في الفرن ببيت النار، كل (محمد، شقيق عبد الله، كان شاهداً على هذه المشاهد من نافذة منزلهم)… بدأوا بالمناداة عبر مآذن الجوامع ليقتادوا الناس إلى الأقبية، ونصبوا مدافع هاون خلف الأبراج، تدقيق على الهويات، محاكم شرعية، سجون توبة، غمسوا الخبز بدم العاملين فيه ووزعوه علىالأهالي، أخذوا الأطفال، واقتادوا ما يقارب الـ130 امرأة «سبايا» الى دوماعبر البساتين من عدرا البلد. لا كهرباء، لا ماء، والبيت الذي يصدر منه صوتيُحرق بمن فيه.
ويقول عبد الله «في هذه الأثناء نزلت جارتنا وزوجهاوابنهما العسكري وانضموا إلى عائلتي واختبأ الشاب في العلية، خوفاً من اكتشاف هويته العسكرية، أقفلوا الباب ووضعوا خلفه بعض الأغراض، واستمر هذا الوضع على مدار ثلاثة أيام، لم يتدخل فيها الجيش خوفاً على حياة المدنيين المحاصرين في الداخل، لكن أهالي عدرا اعتبروا ذلك تقصيراً». ويضيف «ساء الوضع جداً، وخاصة بعدما بدأت العاصفة. سارا بدأت تفقد وعيها وعبير (الحامل) تعبت جداً، والداي المريضان تعبا ايضاً».
حاول عبد الله أنيستحضر كلمات زوجته التي كانت ترسلها له، ابتلع غصة قلبه، وقال «قالت لي سامحني. طلبت منها أن تصبر وحاولت ممازحتها، أسألها ماذا نقول عند النوم؟..تبكي وتقول: تصبح على خير، ثم أتركهم ليناموا قليلاً».
بعد ثلاثة أيام، عند المغيب كنت أكلمهم، قالت لي سارا بصوت مهزوم: «خلص أنا ما عاد فيني، انتهى أمرنا وصلوا الينا… سامحنا عبد الله. كلّمت أخي وكنت أسمع صوت الرصاص وتكسير الباب فقال لي عبدالله أقفل الهاتف إنهم على الباب. وكانت تلك آخر كلمة بيننا، تمنيت لو استطعت أن أكلم أمي ولو كلمة وداع، لكن ذلك لم يحصل…. أخذوهم جميعا وعندما سمع جارنا العسكري ما حصل نزل من العلية وسلمهم نفسه لأنه لم يحتمل أن يأخذوا أهله أمام عينيه، أرسلت لي أمي بعدها رسالة وقالت لي: لا تتصلوا بنا، أخذونا وأخذوا الشباب، النساء في قبو والرجال في المخفر. في المخفر أكثر من 300 مخطوف، ضربوهم وعذبوهم».
20يوماً بعد الاجتياح
تصرفالمسلحون في عدرا براحة كبيرة كما لو أنهم كانوا يعرفونها. زهران علوش، متزعم ما يعرف بــ«جيش الإسلام»، دخل الى عدرا في الفترة الماضية، والتمّ حوله آلاف المسلحين وبدأوا بتقبيل يديه والدعاء له. يقول عبد الله «بعد 20 يوماً خرجت أول دفعة من الأهالي من عدرا، وخرجت معهم جارتنا لتخبرنا بما حصل بالتفصيل، وبعدها بدأ الجيش بتطويق المدينة لكن المسلحين اتخذوا من المدنيين دروعاً بشرية، وكلما حاول التقدم كانوا يلقون بالناس من فوق الابنية. اختطفوا الأطباء ليداووا جرحاهم، فتراجع الجيش مجدداً، وتحاول الحكومة بالتنسيق مع الهلال الاحمر السوري التفاوض مع المسلحين لإخلاء سبيلالأهالي المحتجزين في الداخل مقابل تأمين طلباتهم، لكنهم في الوقت نفسه لايلتزمون بالاتفاقات. دخل الهلال الأحمر إلى عدرا خلال أحداثها مرتين للاطمئنان على الأهالي، وتبدو بوادر الفرج قريبة». ينهي عبد الله كلامه بكلمات، يتقمصها السخط واللوعة والاشتياق.
69 يوماً لا يعرف عبد الله عن أهله شيئاً. يشعر بروح أخيه التوأم وبزوجته متعبتين جداً، لكنه لم يستسلم ولن يكفّ عن انتظارهم لأنه يعتقد أن أكبر أخطائنا في حق أنفسنا هو الاستسلام للإحباط، حتى ولو كان الموت هو البديل.
(ملاحظة: الأسماء الواردة مستعارة حماية لأصحابها وأهلهم في المدينة)