ليلاً وبعد أيام من مرور عيد الفطر عام 2014 وأثناء تجولي وصديقي في شارع حيينا بمدينة الميادين بريف دير الزور، فجأة وأثناء خروج المصلين من أحد جوامع الحي، حاصرتنا عدة سيارات تابعة لتنظيم داعش اقتربوا منا ثم ألقوا القبض علينا تلك كانت بداية المأساة لي وبداية قصتي في النجاة من الموت المحتوم.
كان التنظيم قد أصدر حظراً للتجوال في مدينة الميادين بعد سقوط معظم مناطق دير الزور تحت سيطرته، أواخر عام 2014 بعد معارك مع فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة، وباشر التنظيم بحملاته الأمنية للتخلص من منتسبي تلك الفصائل سابقاً بغية قتلهم أمام الناس لترويعهم واخضاعهم. معصوبي الأعين ومكبلي الأيدي وسط تسارع في نبضات قلوبنا، وفي مدرسة من المفترض أن تكون لطلب العلم، لكن التنظيم جعلها مقراً لجهاز الامني أحد أقذر الاجهزة التي دأب داعش على إنشائها، جاء أحدهم وصرخ بصوت كان كافياً لإرعاب كل الموجودين، من منكم أخ لفلان؟، هنا تبين لي بأن سبب إعتقالنا أنا وصديقي ومن قبل مراقبة منزلنا هو البحث عن أخي المطلوب. بعد تحقيق عشوائي، بدأ الأمنيون بتعذيبي في مقرهم اللعين، ثم تبعها تلفيق تهم متنوعة لي حكموا علي حينها بالإعدام بكل بساطة. بين مصدق ومكذب للحكم، نقلت لسجن أخر للأمنيين وبقيت يوم كامل انتظر دوري من أجل التحقيق معي، يتخلل الأوقات هذه أصوات مرعبة لأشخاص يعذبون أثناء التحقيق معهم، كان أشدها ايلاما ووضوحاً صوت “المقرة” وهي عبارة عن سلسلة غليظة تلُف على بكرة ترتفع عن الأرض قرابة مترين ونصف. يربط بها المعتقل حيث يرفع عن الأرض مسافة معينة. بعد الانتظار، استدعيت إلى التحقيق كانت الأسئلة تدور حول أخي وهذا ما أكد لي أن التهمة الموجهة لي فقط “أنه أخي”، ثم تحول التحقيق إلى منحاً آخر. وبدأت ترمى علي تهم جديدة إحداها أنني اتبع لخلايا نائمة وأني على تواصل مع الخارج. استمر التحقيق وأنا “مشبوح” للخلف، حيث ربطت يداي بالسلسلة ورفعت عن الأرض فيما لم يتوقف الضرب واللكم طول فترة التحقيق. أحدهم كان يحقق معي وآخرون يتولون مهمة التعذيب كأنها تقسيمة للعذاب الجسدي والنفسي.
بعد أربع ساعات تحت التعذيب والتحقيق كان التهديد بقطع رأسي مستمر ووضعه في إحدى الساحات العامة أبرز ماتم الحديث فيما بينهم، عندما انهكت تماماً وبدأت أفقد وعيي من التعذيب قاموا بإنزالي بأمر من المحقق والذي أكد أنه سيكمل التحقيق في يومٍ آخر. وبالفعل بعد يومين استدعيت مرة أخرى ولكن هذه المرة كان الأمر مختلف. لم يكن هناك “شبح” ولا ضرب، حتى أن المحقق قد تغيّر وكانت طريقته في ترغيبي وتطميني مختلفة تماماً، حيث قال: “تبرأ من جماعة جبهة النصرة فينتهي الأمر وتعود إلى أهلك” وصاحب هذا الكلام هدوء في المعاملة حيث قدم لي قطعة حلوى وماء بارد وعندما لم أتفوه بإجابة من شدة الخوف، عاد بي إلى الوضع السابق وبدأ بتعذيبي بشدة أكبر من المرة الماضية. قال لي في نهاية المطاف لقد مات اثنان قبل على هذه (المقرة). من شدة التعذيب قلت له، أفعل ما تشاء واكتب ماتريد وبالفعل ونسب لي كلام لم أدلِ به أبداً. في شدة اليأس التي مررت فيها داخل السجن قرر المحقق تحويلي للقاضي للبت في أمري بعد الإطلاع على نتيجة التحقيق، دخلت وجلست أمامه مباشرة وأنا معصوب العينين ومقيد اليدين. قبل السؤال والإجابة ضربني على وجهي عدة ضربات. ثم بدأ يسألني بما كُتب في ملفي وما كتبه المحقق ثم أنهى كلامه بسؤال لا يمت للمنطق بصلة، سألني: هل قُلت هذا الكلام غصباً أم أنه اعتراف طوعي؟ لم أجبه فقال خذوه إلى غرفته. أثناء مثولي أما القاضي كان أحدهم في الغرفة المجاورة يصرخ من شدة التعذيب والضرب في مشهد لا يتخيله الإنسان.
بعد أسبوع من الاعتقال والتحقيق لم اعترف على أيّ من التهم لم تتغير الأمور ولا النتيجة، فقد حُكم علي بالإعدام مع مجموعة من المعتقلين. بعد الحكم بقيت في غرفتي قرابة أسبوعين بلا جديد. ثم نُقلْت إلى غرفة أخرى لأكمل انتظاري وأمضي ما بقي لي من العمر.
منذ اللحظة الأولى التي اعتقلت فيها بدأت أفكر في الهرب والموت في عيني كانت الغرف التي تنقلت بينها مغلقة بشكل محكم لا تحتوي إلا على فتحتين صغيرتين في أعلى الجدار. كانت الغرف رطبة والشمس عمودية عليها في أغلب فترات اليوم وهذا جعل درجة الحرارة ترتفع مما سبب حالات اختناق أكثر من مرة بين المعتقلين. لم يكن يسمح لنا بالاستحمام وهذا زاد الوضع سوء أن الجو الحار والرطب وعدم النظافة كان يسبب حالات مرضية ناهيك عن الوضع النفسي لاكثر من 20 معتقل في غرفة واحدة وفي هذه الظروف. في الأيام الأخيرة دخل أمير السجن إلى الغرف فصدم من وضعها حتى أنه لم يستطع دخولها. ثم أمر بإحضار مطرقة وأمر تكسير القسم العلوي من الجدار بما لا يزيد عن 25 سم بالإضافة إلى الفتحات الصغيرة الموجودة سابقاً. أزيل القسم العلوي من الجدار ظهر لنا قسم غير مؤمن بشكل كاف من هذه الفتحة وكان تأمينه يقتصر على الشبك ولا يوجد فيه قضبان من الحديد لتدعيمه هنا بدات بالفعل افكر بشكل جدي للهرب واستنشق الحياة من جديد.
في مرة أُخرجت للسخرة ( تقديم الطعام أو عمله للمعتقلين) وهي المرة الوحيدة ولكن المسؤول عن السخرة أمر بإعادتي إلى الغرفة وأن أستبدل بمعتقل آخر في هذه اللحظات شاهدت في ركن من المطبخ عدة بسيطة فيها قاطع حديد صغير يدوي وأشياء اخرى.
طفل في سن الرابعة عشر من العمر كان من بين المعتقلين كثير الخروج للسخرة، كنت قد أوصيته بأن يجلب قطاعة الحديد وهذا ما حدث فعلاً. حيث أحضرها بعد يومين كنت خلالهما قد اتفقت مع شاب من جبهة النصرة معتقل ومحكوم بالإعدام مثلي على الهرب بقطع الشباك من الجهة غير المدعمة بالحديد. أخفينا القطاعة 4 أيام حتى تسنى لنا استخدامها. المصادفة حولت مغامراتنا إلى ناحية لا يمكن تصديقها حيث جاءت الفرصة ليلة الخميس وكان من المقرر أن ينفذ حُكم الإعدام يوم الجمعة بحقنا. هربت قبل وقت الإعدام بساعات قليلة. في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل كنا قد انتهينا من قص الشبك وفي ظرف 30 دقيقة تمكن 14 شاب من الفرار خارج السجن وبقي شابان من عشيرة الشعيطات رفضا الهرب وقالا أنه لا توجد عليهم أي تهم إلّا أن التنظيم أعدمهم بعد فترة قصيرة من هروبنا أحد المواقف المبكية والتي بكيت حتى استفاض دمعي، شاب ضخم الجثة حاول الخروج معنا لكن لضخامته لم يستطع الخروج كانت عيناه تذرف دماً بدل الدمع، كونه لم يتمكن من الخروج، أعدم بعد شهرين من هروبنا.
عند هروبنا تفرقنا وكل سار في اتجاه بغية تشتيت جهود أمنيي التنظيم في حال بحثهم عنا، وفي حال ألقى التنظيم القبض على أحد منا لا يتضرر البقية، وبهذا كتبت لنا حياة جديدة وكانت لحظة نجاتنا من الموت. المصدر: ديرالزور24