في ريف حلب الشمالي وعلى مقربة من مارع ثمّة قرى صغيرة تشكّل ما يشبه مثلث عملياتٍ عسكريّة مفتوحاً على كل ألوان الحرب والعسكرة. هجر كل المدنيين بيوتهم، وخلت القرى من قاطنيها. وحدها الحاجة عليا (100 عام) ما زالت باقيةً هناك
يطرق المقاتل باب بيت متواضعٍ بين الخرائب ويصرخ «يا حجّة، جاكي ضيوف»، ليردّ صوتٌ مرتفع ومتهلّل رغم أثر السنين الواضح فيه «ضيوف؟!! يا هلا يا هلا... تفضلوا تفضلوا».
ندلفُ وراء المقاتل، ليطالعنا وجه الحاجّة عليا المتغضّن وقد هبّت لاستقبالنا. والحاجة عليا هي المدنية الوحيدة الباقية من سكان ثلاث قرى: حربل، أم حوش، وأم القرى (جنوب مارع، شمال حلب). على امتداد الطريق من تل رفعت نحو قريتي حربل، وأم حوش المتجاورتين، وبعد جولة طويلة بينهما ستشعر وكأنّك في ثكنة عسكريّة كبيرة. لا يطالعُك أيّ مظهر مدني، لا شيء سوى الدّمار وبعض الحواجز المتناثرة (تابعة لـ«قوات سوريا الديمقراطيّة»)، وسيارات قليلة عابرة تقلّ مقاتلين. قرب أحد الحواجز نلمحُها منكبّة بانهماك على شيء ما. نسأل: «من تكون؟ وماذا تفعل هنا؟»، يشرحُ مرافقونا «عجوزٌ وحيدةٌ، غادر الجميعُ وبقيَت. تخرج يوميّاً لتجمعَ الطعام لدجاجاتها». بعد أن نفرغ من جولتنا في كنف الحرب نعودُ للبحث عن الحاجّة عليا. تُكرّر عبارات الترحاب على مسامعنا وتدعونا للدخول، وتطلب في الوقت نفسه من المقاتل الذي قادنا إليها أن يناولها تنّورتها من غرفة أخرى. لا بدّ من اسقبال الضيوف بهندام مناسب! نسأل عن اسمها فتجيب باعتداد «عليا الشبلي بنت صالح الشبلي، عميريّة آني (من عشيرة العميرات)». لا تلقي الحاجة اهتماماً كبيراً للسنوات، عمرها يقارب المئة عام «عمري؟ 100، يا أكتر شوي، أو أقل شوي». تزوّجت منذ «شي 50 ... 60 سنة». تقول إنّ أصولها من بلدة تل رفاد (تل رفعت) المجاورة، ثمّ تزوجت وانتقلت إلى قرية زوجها. لا أبناء لديها، كانت قد رُزقت طفلتين وطفلاً ذكراً، وماتوا صغاراً منذ زمن طويل. تقول بلهجة يختلط فيها الفخر بالأسى «طلعت هالخلق كلها وأنا ما طلعت»، وتضيف «ضلّيت وحيدة أنا وجويجاتي (دجاجاتي)». هي حريصة على تدليع دجاجاتها، رفيقات وحدتها الطويلة. عرفت المنطقة التي تقطنها الحاجة عليا كلّ أهوال الحرب، شأنها في ذلك شأن كثير من المناطق السوريّة. توارثت السيطرة عليها جهاتٌ مختلفة. معظم أطراف الحرب مرّوا من هنا، جاء من جاء ورحل من رحل، وبقيت عليا. «ما بَخاف... مرة (امرأة) كبيرة، بدربس (أُقفل) هالباب وبقعد». تحبّين هذه القرية؟ نسألها، فتجيب ببساطةٍ تختصر كل فلسفات الأوطان: «بحبها والله بحبها، داري... داري يا ابن أختي، وين أروح أتلجلج (من اللجوء)؟ وين؟ قل لي وين». الودّ الحاضر في طيّات كلام الحاجة عليا يشمل الجميع بلا استثناء، لسانُها يدعو ويدعو طوال الوقت. لديها أمنية لا تتردّد في قولها حين نطلبُ منها ذلك «إن قتلتوني، إن ضربتوني، أريد... أريد يرجعوا كل هالناس اللي حوالي... أريدهم يردّون. الله يرّدد كل شي بخير يا رب، هذا اللي أعرفو يا ابن أختي». كان لدى الحاجة عليا أربع "معزات" إضافة إلى دجاجاتها، لكنّها سُرقت. تتحدّث عنها بلهفة من فقد عزيزاً «باقوهن (سرقوهم). السّودا، وبنتها الحمرا، والبنيّة، وفي كمان البيضا». السرقة وفقاً لعليا حدثت قبل عيد الأضحى بيوم واحد. الفصيل الذي كان موجوداً في المنطقة حينها «جيش الثوار» أحد مكوّنات «قوات سوريا الديمقراطيّة». الدقائق القليلة مع الحاجة كفيلة بأن تخلّف لديك ألفة كبيرة، وكأنك تعرفها منذ سنوات. هي الأكثر بصيرةً منّا، تنظر إلى عدساتنا مباشرةً، تضحك بظرفٍ مُحبّب وتقول «صوروني... صوروني، صوروا هالعميا». تغالب الحسرة وتقول «آه ما حلى زماني، لو تعرف حدا من حربل وتسأل علي، من هديك الضيعة تسأل علي: أم حوش». ومن سنسأل عنك يا خالة بعدما «تغيّرت الديار ومَن عليها» ومن سنسأل وقد رحل الجميع، وأنت الباقية الوحيدة؟! تقول «دنيا يا ابن أختي دنيا... كنت أظن الدنيا دايمتلي، وحباب قلبي سالملتي... منين؟». صدقت يا حاجة عليا. صدقتِ... «منين»؟!