علي عبد المجيد على كتف نهر الفرات، في ريف مدينة دير الزور؛ تقع قريةٌ صغيرة اسمها "حطلة"؛ براعة الطبيعة فيها لم تكن لتتناسب يوماً مع قصّةٍ دموية كالتي نسردها الآن، ولا سيرة أهلها الوادعين الذين عاشوا عشرات السنين تنوعاً وتسامحاً دينياً مشهوداً.
عدد سكان "حطلة" يبلغ 20 ألف نسمة، أغلبها من لونٍ طائفيٍّ معتدل، وفيها من طائفةٍ أخرى مابين الـ 2500 إلى 3000 آلاف مواطن، يتعايشون منذ سنواتٍ طويلةٍ بعلاقات نسبٍ وقرابة دين.
في صباح يوم الأربعاء(بتاريخ 12-6-2013)، الساعة السادسة إلا رُبعاً، ومع بزوغ دفء الصباح.. حصلت مجزرةٌ لم تكن القرية لتتخيلها يوماً.
القالبُ الإنسانيُّ في نقل الحدث لا يَمسُّ الموضوعية أو الدقّة، وإنّما يصوّره من زاوية الإنسان الذي جعلتهُ الأحداث الدموية المتسارعة رقماً على إحصاءات الأخبار العاجلة.. لا أكثر (ولعلّ في ذاك تحديداً سبباً وجيهاً للتركيز على "الإنسان" دون سواه من عناصر الخبر).
القرية عبارة عن تجمعين رئيسين: تجمّع الشيخ علي، وتجمّع الرجا، لايوجد فيها أو بالقرب منها أيّة نقطة عسكرية أو أمنية، ولا حتى تنظيمٌ لما يُسمى باللجان الشعبية.
عاش الناس في حطلة تجانساً مذهبيّاً ملفتاً؛ فأهلها أصلاً من قبيلةٍ ونسبٍ واحد؛ والعذوبة الصوفيّة التي تشتهر بها تلك المنطقة لم تكن لتتصادم يوماً مع الولاء الشيعيّ لعائلات تعيش معاً منذ عشرات السنوات.
بيدّ أن اعتبارات النسب وذمار العشيرة لا مكان لها في قاموس التنظيمات المتطرّفة، وهو ما خبرهُ جميع سكان دير الزور بعد استفحال بطش "جبهة النصرة" في مدينتهم وريفها.
وكانت قصّة المذبحة كالتالي:
بعد فترةٍ وجيزةٍ من الخيبة التي ولدتها أحداث معركة القصير في ريف حمص؛ بات"الثأر" عنوان المرحلة لمجموعات السلاح المتطرّف، وكان قدر"حطلة"العاثر أن تقع في محيطٍ قلقٍ أمنيّاً.
استثارت النداءات الطائفيّة جبهة دير الزور بالكامل؛ وخلال يومٍ واحد أجمعت كافّة الألوية (أو ما يُسمى بالألوية) التابعة لجبهة النصرة على هدفٍ مباشر؛ وهو القضاء على الأقليّة المذهبيّة الموجودة في حطلة، قبل أن يُتاح للإعلام أن يثير الموضوع، وقبل أن يحاول أيّ طرفٍ مدّ يد العون أو تأمين المنطقة عسكريّاً.
ألوية جبهة النصرة في المنطقة تداعت من حدود البوكمال إلى أطراف الرّقة، فضلاً عن عدّة كتائب من منطقة الحسكة؛ كلها مجتمعةً شاركت في المعركة المذهبيّة المشهودة ، أمام أقليّةٍ في قريةٍ صغيرة معزولة!
حوصرت القرية، وبدأ هجومٌ شاملٌ شنّهُ مئات المسلّحين الذين يتشظون غصباً طائفيّاً؛ لا أحد يدري بعدُ كيف يتمّ شحنُ هؤلاء بذاك الكمّ من الغيظ الدموي، تجاه مدنيين كانوا بالأمس القريب جيرةً وأقارب!
المنطقة قبليّة؛ والسلاح الخفيف منتشرٌ فيها بالقدر اليسير المعتاد، والدفاعُ عن النفس طبعٌ إنسانيٌّ راسخ.. لكنّ ضعف الإمكانات وشراسة الهجوم جعلت الحسم سريعاً للغاية؛ بضعُ ساعاتٍ وكان النصرُّ المذهبيُّ المؤزّر يصدح على بعض المآذن المجاورة التي احتلها التنظيم المتطرّف، وعشرات المدنيين رجالاً ونساءً وأطفالاً ممددون على أرصفة القرية.. أمام بيوتٍ تأكلها ألسنة اللهب.
الموت أخذ من القرية مأخذه.. ومشاهد الوحشيّة وُزّعت على عددٍ من المناطق المجاورة: جثتان عُلقتا ثلاثة أيامٍ على قوس مدينة الشحيل (مدخل المدينة). 7 جثث جرّتها السيارات على إسفلت شوارع مدينة الميادين طوال ساعات، كان أحدهم "إبراهيم السايح" الذي تشهد المنطقة بأسرها طيبته وسعيهُ الدؤوب في خدمة الناس.
وخلافاً لكلّ الأعراف القبلية المقدّسة هناك؛ فقد قام المسلحون بشنق أربع نساءٍ على أعمدة الكهرباء داخل القرية!! "صيدٌ ثمين":
بعد استجوابٍ عنيفٍ مع شيخ القرية (ابراهيم الملا عيد) دام لدقائق فقط؛ حول دراسته في مدينة قمّ الإيرانيّة، أو انتمائه للحرس الثوري الإيراني، أوتعاونه مع حزب الله.. إلى آخر ديباجة التهم المعتادة.
لم يطق المسلحون صبراً على تحقيق نصرٍ طائفيٍّ جديد؛ الإنسانيّة وسماحة الدين غائبةٌ تماماً عن المشهد..
أخرجوا جميع من كان في البيت إلى ساحته (الحوش)؛ وبعد وابلٍ من التكبير والتهليل، عمد المسلحون إلى ابتداع لونٍ فريدٍ من الوحشية ؛ حيث روّعوا الزوجين بأن ذبحوا الأطفال الثلاثة تباعاً أمام أعين أبيهم وأمّهم!!
الولد الأكبر مرتضى (20 عاماً)، أخوه مصطفى (18 عاماً)، وأختهم الصغرى (7 أعوام).
قُتل الشيخ الذاهل أمام جثث أبنائه دون أن يلتفت إلى قاتليه أصلاً.. رشقاتٌ كثيفةٌ من الرصاص أردتهُ صريعاً، الكلّ سعى لأخذ نصيبٍ من أجر هذا القتل الطائفيّ، حتى لم يعد من متسعٍ للرصاص في جسده النحيل.
وأخيراً قتلت زوجة الشيخ أيضاً؛ بعد أن تركت برهة من الزمن تنزف روحها أمام هول المشهد.. وعبارات التشفي تمرّ على مسامعها دون أن تعيها ربما..
ارتمت تذرف القهر على جثّث زوجها وأبنائها التي لم تبرد بعد، بضعُ طلقاتٍ كانت كفيلةً بأن تلحق بعائلتها إلى العالم الآخر.
وعاد الهتاف والتكبير ليملأ المكان نصراً..!
في اليوم التالي عمد المسلحون إلى تفجير مسجد "الرسول الأعظم"، و"حسينيّتين" لإحياء المناسبات الدينية، وإحراق منازل "الكفار" دون استثناء.
آخر من تمّ إعدامهم هو الحاج عيسى خلف الهلال (90 عام)، وهو من منطقة"الرجا"، تمّ رمي جثّته عن سطح منزله، وسحل إلى الحفرة الجماعية التي خصصت لحرق كل الجثث حتى نقطة الحياة الأخيرة!.
ليس من "منطق الاقتتال" أن نسمع مثل هذه القصص، حتى في أكثر الحروب قذارةً.. هناك شيءُ ما كسر كلّ قواعد السلوك الإنساني في البغض؛ ربما بات من الواجب البحث عن مفردةٍ أكثر جدوى من مفردة "الجرائم ضدّ الإنسانيّة"، فما يحصل الآن هو _بطريقةٍ ما_ "جرائم ضدّ الوجود" ذاته.. حيث يتفنن هؤلاء المتطرفون في تهشيم ذات "العدوّ" والتنكيل به إلى درجة تشعرك أنّ هناك ثأراً مع فكرة استحقاقه للوجود أصلا..!
الفرار الجماعي:
قرابة الألف من أهالي قرية حطلة بدير الزور هاموا على وجوههم لدى هجوم التكفيريين عليهم، وساروا مسافاتٍ طويلةٍ في صحراء الدير اللاهبة، ليصلوا إلى قريةٍ تجيرهم وتتستر على وجودهم.. حتى حين.
لم تمض أيام حتى عرف المسلحون بمكانهم مجدداً ،وحاق الخوفُ بهؤلاء الهاربين من الموت..
قرية "الجفرة" التي التجؤوا إليها، ومختارها الطيّب "الحاج خلف أبو أحمد"، وكلّ أهلها المضيافين، ليسوا قادرين على مواجهة بطش "جبهة النصرة" متعددة الجنسيات تلك.
في حديثٍ هاتفيّ مع أحد الناجين، كان يناشدُ باستماتةٍ أن يتدخل أيُّ طرفٍ لترحيل أطفالهم على الأقل؛ فالبرُّ مغلقٌ في اتجاهاته كافّة، ولا وسيلة للهرب إلا ابتغاءً سلّمٍ في السماء.
صوته المتهدّج للغاية كان يعبّر عن مخاوفه أكثر من كلماته:"لا نستطيع اجتياز الطريق البرّي لأيّ جهة؛ فنحن محاطون بالمسلحين من كل جانب.. التكبير عبر المآذن بدأ مجدداً.. نرجوكم.. أنقذوا الأطفال فقط.. فهؤلاء القتلة لا يرحمون كبيراً ولا صغيراً".
ما يحصلُ في غير بقعةٍ من الساحة السوريّة يكادُ يثقل قدرتك على نقل المشهد.
صانعو الأحداث الدموية باتوا أكثر إبداعاً؛ وبتّ بالفعل تُذهل أمام كلّ قصّةٍ جديدةٍ تنضوي على دلالاتٍ تنذرُ بالأسوأ.
عبثاً نحاول تغطية وجه الطائفية البشع في المشهد السوريّ اليوم؛ فعبث الطائفيّة لم يعد خافياً على من ينظر بعين الموضوعيّة؛ لكننا في الوقت ذاته لا نستثير في نقل هذه المشاهد المؤلمة سوى صوت العقل.. الذي بات ضحيّةً أخرى من ضحايا التطرف المستجدّ.
حقيقة الأمر.. أننا عندما نتحدّث عن طائفيين بعينهم؛ فهذا لا يعني أننا نقذف المذاهب الإسلاميّة بالتطرّف والطائفيّة؛ بل أننا نعرّي الجماعاتِ المتطرفة دون سواها، علّها تكون سبباً في الدفع لاستعادة كيان المجتمع والدولة. أمام مثل هذه السقطات المزريَة في انتهاك الإنسانيّة؛ يجدرُ بنا جميعاً أن نقف.. ونتأمّل.